لباب التأويل، ج ٣، ص : ١٥٩
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أي ألقينا عليهم النوم، وقيل منعنا نفوذ الأصوات إلى مسامعهم فإن النائم إذا سمع الصوت ينتبه فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً أي أنمناهم سنين كثيرة فإن العدد يدل على الكثرة ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أي من نومهم لِنَعْلَمَ أي علم مشاهدة وذلك أن اللّه عز وجل لم يزل عالما، وإنما أراد ما تعلق به العلم من ظهور الأمر لهم ليزدادوا إيمانا واعتبارا أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أي الطائفتين أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً أي أحفظ لما مكثوا في كهفهم نياما وذلك أن أهل المدينة تنازعوا في مدة لبثهم في الكهف.
قوله تعالى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ أي نقرأ عليك خبر أصحاب الكهف بالحق أي بالصدق إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ أي شبان آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً أي إيمانا وبصيرة وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي شددنا على قلوبهم بالصبر والتثبيت وقويناهم بنور الإيمان حتى صبروا على هجران دار قومهم، ومفارقة ما كانوا عليه من خفض العيش وفروا بدينهم إلى الكهف إِذْ قامُوا يعني بين يدي دقيانوس الجبار حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام فَقالُوا أي الفتية رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً إنما قالوا ذلك لأن قومهم كانوا يعبدون الأصنام لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً قال ابن عباس : يعني جورا وقيل كذبا يعني إن دعونا غير اللّه هؤُلاءِ قَوْمُنَا يعني أهل بلدهم اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أي من دون اللّه آلِهَةً يعني أصناما يعبدونها لَوْلا أي هلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ أي على عبادة الأصنام بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ أي بحجة واضحة وفيه تبكيت لأن الإتيان بحجة على عبادة الأصنام محال فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي وزعم أنه له شريكا أو ولدا ثم قال بعضهم لبعض وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ يعني قومكم وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وذلك أنهم كانوا يعبدون اللّه، ويعبدون معه الأصنام والمعنى وإذا اعتزلتموهم وجميع ما يعبدون إلا اللّه فإنكم لم تعتزلوا عبادته فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ أي الجؤوا إليه يَنْشُرْ لَكُمْ أي يبسط لكم رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ أي يسهل لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً أي ما يعود إليه يسركم ورفقكم.
قوله سبحانه وتعالى وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ أي تميل وتعدل عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ أي جانب اليمين وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ أي تتركهم وتعدل عنهم ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أي متسع من الكهف ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ أي من عجائب صنعه ودلالات قدرته وذلك أن ما كان في ذلك السمت تصيبهم الشمس ولا تصيبهم اختصاصا لهم بالكرامة، وقيل إن باب الكهف شمالي مستقبل لبنات نعش فهم في مقنأة أبدا لا تقع الشمس عليهم عند الطلوع ولا عند الغروب ولا عند الاستواء فتؤذيهم بحرها، ولكن اختار اللّه لهم مضجعا في متسع ينالهم فيه برد الريح ونسيمها ويدفع عنهم كرب الغار وغمه، وعلى هذا القول يكون معنى قوله ذلك من آيات اللّه أي إن شأنهم وحديثهم من آيات اللّه مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ يعني مثل أصحاب الكهف وفيه ثناء عليهم وَمَنْ يُضْلِلْ أي ومن يضلله اللّه ولم يرشده فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا أي معينا مُرْشِداً أي يرشده. قوله سبحانه وتعالى :
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠)


الصفحة التالية
Icon