لباب التأويل، ج ٣، ص : ١٩١
وأنا مكلمه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس، ثم أتى ملك الموت فقال له إليك حاجة صديق لي من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله، فقال ملك الموت ليس لي ذلك ولكن إن أحببت أعلمته أجله فيقدم لنفسه قال نعم فنظر في ديوانه فقال : إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبدا.
قال وكيف ذلك فقال لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس. قال إني أتيتك وتركته هناك قال انطلق فلا أراك تجده إلا وقد مات فو اللّه ما بقي من عمر إدريس شيء فرجع الملك فوجده ميتا وقال وهب : كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لجميع أهل الأرض في زمانه، فعجب منه الملائكة واشتاق إليه ملك الموت فاستأذن ربه في زيارته فأذن له فأتاه في صورة بني آدم وكان إدريس يصوم الدهر، فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى الطعام فأبى أن يأكل معه ففعل ذلك ثلاث ليال، فأنكره إدريس وقال له في الليلة الثالثة : إني أريد أن أعلم من أنت قال : أنا ملك الموت، استأذنت ربي أن أصحبك فقال لي إليك حاجة قال وما هي قال تقبض روحي. فأوحى اللّه إليه أن اقبض روحه وردها اللّه إليه بعد ساعة فقال له ملك الموت ما الفائدة في سؤالك قبض الروح؟ قال لأذوق كرب الموت وغمه فأكون أشد استعدادا له. ثم قال له إدريس لي إليك حاجة أخرى. قال وما هي قال ترفعني إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجنة والنار فأذن اللّه له فرفعه فلما قرب من النار قال لي إليك حاجة قال وما هي قال أريد أن أسأل مالكا أن يرفع أبوابها فأراها.
ففعل قال فكما أريتني النار فأرني الجنة. فذهب به إلى الجنة فاستفتح ففتحت أبوابها فأدخله الجنة ثم قال له ملك الموت اخرج لتعود إلى مقرك فتعلق بشجرة، وقال ما أخرج منها فبعث اللّه إليه ملكا حكما بينهما قال له الملك ما لك لا تخرج؟ قال لأن اللّه تعالى قال كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وقد ذقته ثم قال وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها فأنا وردتها وقال وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ فلست أخرج فأوحى اللّه تعالى إلى ملك الموت بإذني دخل الجنة وبأمري لا يخرج فهو حي هناك فذلك قوله تعالى وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا واختلفوا في أنه حي في السماء أم ميت. فقال قوم هو ميت واستدل بالأول. وقال قوم هو حي واستدل بهذا. وقالوا أربعة من الأنبياء أحياء اثنان في الأرض وهما الخضر وإلياس. واثنان في السماء وهما إدريس وعيسى. قوله عز وجل :
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٨ الى ٦٢]
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢)
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ أولئك إشارة إلى المذكورين في هذه السورة أنعم اللّه عليهم بالنبوة وغيرها ما تقدم وصفه مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ يعني إدريس ونوحا وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ أي ومن ذرية من حملنا مع نوح في السفينة يريد إبراهيم لأنه ولد سام بن نوح وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ يعني إسحاق وإسماعيل ويعقوب وَإِسْرائِيلَ أي ومن ذرية إسرائيل وهو يعقوب وهم موسى ويحيى وهارون وزكريا وعيسى صلوات اللّه وسلامه عليهم فرتب اللّه تعالى أحوال الأنبياء الذين ذكرهم على هذا الترتيب منها بذلك على أنهم كما شرفوا بالنسب ثم قال تعالى وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا أي هؤلاء من أرشدنا واصطفينا وقيل من هدينا إلى الإسلام واجتبينا على الأنام إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً جمع ساجد وَبُكِيًّا جمع باك، أخبر اللّه تعالى أن


الصفحة التالية
Icon