لباب التأويل، ج ٣، ص : ٢٣٣
بالاجتهاد. قال : ويجوز الاجتهاد للأنبياء ليدركوا ثواب المجتهدين والعلماء لهم الاجتهاد في الحوادث إذا لم يجدوا فيها نص كتاب أو سنة وإذا أخطئوا فلا إثم عليهم (ق) عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :«إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر» وقال قوم إن داود وسليمان حكما بالوحي فكان حكم سليمان ناسخا لحكم داود ومن قال بهذا يقول لا يجوز للأنبياء الحكم بالاجتهاد لأنهم مستغنون عنه بالوحي، واحتج من ذهب إلى أن كل مجتهد مصيب بظاهر هذه الآية وبالحديث حيث وعد الثواب للمجتهد على الخطأ، وهو قول أصحاب الرأي وذهب جماعة إلى أنه ليس كل مجتهد مصيبا بل إذا اختلف اجتهاد المجتهدين في حادثة كان الحق مع واحد لا بعينه، ولو كان كل واحد مصيبا لم يكن للتقسيم معنى، وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم :«إذا اجتهد فأخطأ فله أجر» لم يرد به أنه يؤجر على الخطأ بل يؤجر على اجتهاده في طلب الحق لأن اجتهاده عبادة والإثم في الخطأ عنه موضوع إذا لم يأل جهدا، ووجه الاجتهاد في هذا الحكم أن داود قوم قدر الضرر في الحرث فكان مساويا لقيمة الغنم، وكان عنده أن الواجب في ذلك الضرر في الحرث قيمة المثل، فلا جرم سلم الغنم إلى المجني عليه.
وأما سليمان فإن اجتهاده أدى إلى أنه يجب مقابلة الأصول بالأصول والزوائد بالزوائد، فأما مقابلة الأصول بالزوائد فغير جائزة، ولعل منافع الغنم في تلك السنة كانت موازية لمنافع الحرث فحكم به. ومن أحكام داود وسليمان عليهما السلام ما روي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول :«كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت لصاحبتها إنما ذهب بابنك وقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينهما فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك اللّه هو ابنها فقضى به للصغرى» أخرجاه في الصحيحين قوله تعالى وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ أي يسبحن مع داود إذا سبح قال ابن عباس كان يفهم تسبيح الحجر والشجر، قيل :
كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح وكذلك الطير وقيل معنى يسبحن يصلين معه إذا صلى وقيل كان داود إذا فتر يسمعه اللّه تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه وَكُنَّا فاعِلِينَ يعني ما ذكر من التفهيم وإيتاء الحكم والتسخير.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٠ الى ٨١]
وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١)
وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ أي صنعة الدروع التي تلبس في الحرب قيل أول من صنع الدروع وسردها واتخذها حلقا داود وكانت من قبل صفائح قالوا إن اللّه ألان الحديد لداود بأن يعمل منه بغير نار كأنه طين والدرع يجمع بين الخفة والحصانة وهو قوله تعالى : لِتُحْصِنَكُمْ أي تمنعكم مِنْ بَأْسِكُمْ أي حرب عدوكم وقيل من وقع السلاح فيكم وقيل ليحصنكم اللّه به فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ أي يقول ذلك لداود وأهل بيته. قوله عز وجل وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي وسخرنا لسليمان الريح وهو جسم متحرك لطيف ممتنع بلطفه من القبض عليه يظهر للحسن بحركته ويخفى عن البصر بلطفه عاصِفَةً أي شديدة الهبوب. فإن قلت : قد وصفها اللّه بالرخاء وهي الريح اللينة قلت : كانت الريح تحت أمره إن أراد أن تشتد اشتدت وإن أراد أن تلين لانت تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها يعني الشام وذلك لأنها كانت تجري بسليمان وأصحابه حيث يشاء سليمان ثم يعود إلى منزله بالشام وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ أي بصحة التدبير فيه وعلمنا أن ما يعطى سليمان من تسخير الريح وغيره يدعوه إلى الخضوع لربه. قال وهب : كان سليمان عليه السلام إذا خرج إلى مجلسه حلقت عليه الطير وقام له الإنس والجن حتى يجلس على سريره، وكان امرأ غزاء، قلما كان يقعد عن الغزو، ولا يسمع في ناحية من