لباب التأويل، ج ٣، ص : ٢٣٧
وإجلالا، فإذا اشتاقوا من ذلك استبقوا إلى اللّه بالأعمال الزاكية يعدون أنفسهم من الظالمين والخاطئين وإنهم لأبرار برآء ومع المقصرين المفرطين وإنهم لأكياس أقوياء.
قال أيوب عليه السلام : إن اللّه يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير، فإذا نبتت في القلب يظهرها اللّه على اللسان وليست تكون الحكمة من قبل السن ولا طول التجربة، وإذا جعل اللّه العبد حكيما في الصبا لم تسقط منزلته عند الحكماء، وهم يرون من اللّه سبحانه وتعالى عليه نور الكرامة، ثم أقبل أيوب على الثلاثة وقال :
أتيتموني غضابا رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم قبل أن تضربوا، كيف بي لو قلت تصدقوا عني بأموالكم لعل اللّه أن يخلصني، أو قربوا عني قربانا لعل اللّه أن يقبله ويرضى عني وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم، وظننتم أنكم قد عوفيتم بإحسانكم، ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم ثم صدقتم لوجدتم لكم عيوبا سترها اللّه تعالى بالعافية التي ألبسكم. وقد كنتم فيما خلا توقرونني وأنا مسموع كلامي معروف حقي منتصف من خصمي، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم، فأنتم كنتم أشد عليّ من مصيبتي. ثم أعرض عنهم أيوب، وأقبل على ربه مستغيثا به متضرعا إليه فقال : يا رب لأي شيء خلقتني؟ ليتني إذ كرهتني لم تخلقني، يا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي، فالموت كان أجمل بي. ألم أكن للغريب دارا وللمسكين قرارا ولليتيم وليّا وللأرملة قيّما إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فالمنّ لك، وإن أسأت فبيدك عقوبتي، جعلتني للبلاء غرضا، وللفتنة نصيبا، وقد وقع عليّ من البلاء ما لو سلطته على جبل لضعف عن حمله فكيف يحمله ضعفي. وإن قضاءك هو الذي أذلني، وإن سلطانك هو الذي أسقمني وأنحل جسمي، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فيّ فأدلي بعذري وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي، ولكنه ألقاني وتعالى عني فهو يراني ولا أراه ويسمعني ولا أسمعه.
فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظن أصحابه أنه عذاب، ثم نودي يا أيوب إن اللّه يقول ها أنا قد دنوت منك ولم أزل منك قريبا قم فأدل بعذرك وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك واشدد أزرك وقم مقام جبار يخاصم جبارا إن استطعت، فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار مثلي. لقد منتك نفسك يا أيوب أمرا، ما يبلغ لمثله مثلك. أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها؟ هل كنت معي تمد بأطرافها؟ هل علمت أي مقدار قدرتها، أم على أي شيء وضعت أكنافها. أبطاعتك حمل الماء الأرض، أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء؟ أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا في الهواء لا تعلق بسبب من فوقها ولا يقلها دعم من تحتها؟ هل يبلغ من حكمتك أن تجري نورها أو تسير نجومها أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها؟ أين كنت مني يوم أنبعت الأنهار وسكبت البحار؟ أبسلطانك حبست أمواج البحار على حدودها أم بقدرتك فتحت الأرحام حين بلغت ملتها؟ أين كنت مني يوم صببت الماء على التراب ونصبت شوامخ الجبال؟ هل تدري على أي شيء أرسيتها أم بأي مثقال وزنتها؟ أم هل لك من ذراع تطيق حملها؟ أم هل تدري من أين الماء الذي أنزلت من السماء؟ أم هل تدري من أي شيء أنشأت السحاب؟ أم هل تدري أين خزانة الثلج؟ أم أين جبال البرد؟ أم أين خزانة الليل بالنهار وخزانة النهار بالليل؟ وأين خزانة الريح؟ وبأي لغة تتكلم الأشجار ومن جعل العقول في أجواف الرجال؟ وشق الأسماع والأبصار؟ ومن ذلت الملائكة لملكه وقهر الجبارين بجبروته وقسم الأرزاق بحكمته؟ في كلام كثير يدل على آثار قدرته ذكرها لأيوب فقال أيوب : صغر شأني وكل لساني وعقلي ورأيي وضعفت قوتي عن هذا الأمر الذي يعرض عليّ إلهي. قد علمت أن كل الذي قد ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك وأعظم من ذلك وأعجب لو شئت عملت ولا يعجزك شيء ولا تخفى عليك خافية إلهي أوثقني البلاء فتكلمت ولم أملك نفسي فكان البلاء هو الذي أنطقني.
ليت الأرض انشقت بي فذهبت فيها ولم أتكلم بشيء يسخطك. ربي وليتني مت بغمي في أشد بلائي قبل ذلك. إنما تكلمت حين تكلمت بعذري، وسكت حين سكت


الصفحة التالية
Icon