لباب التأويل، ج ٣، ص : ٢٥٦
العمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أشواط ويمشي أربعا ثم يصلي سجدتين». والطواف الثاني هو طواف الإفاضة وذلك يوم النحر بعد الرمي والحلق (ق) عن عائشة قالت :«حاضت صفية ليلة النفر فقالت : ما أراني إلا حابستكم قال النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عقرى حلقى أطافت يوم النحر قيل نعم قال فانفري». قوله عقرى وحلقى معناه عقرها اللّه أي أصابها بالعقر وبوجع في حلقها وقيل معناه مشئومة مؤذية ولم يرد به الدعاء عليها وإنّما هو شيء يجري على ألسنة العرب كقولهم : لا أم لك وتربت يمينك وفيه دليل على أن من لم يطف يوم النحر طواف الإفاضة لا يجوز له أن ينفر. الثالث طواف الوداع لا رخصة لمن أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر في أن يفارقها حتى يطوف سبعا فمن تركه فعليه دم إلا المرأة الحائض فإنه يجوز لها تركه للحديث المتقدم ولما روى ابن عباس قال «أمر الناس أن يكون الطواف آخر عهدهم بالبيت إلا أنه رخص للمرأة الحائض» متفق عليه.
الرمل سنة تختص بطواف القدوم ولا رمل في طواف الإفاضة والوداع وقوله «بالبيت العتيق» قال ابن عباس وغيره سمي عتيقا لأن اللّه أعتقه من أيدي الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه فلم يظهر عليه جبار قط، وقيل لأنه أول بيت وضع للناس وقيل لأن اللّه أعتقه من الغرق فإنه رفع أيام الطوفان وقيل لأنه لم يملك. قوله عزّ وجلّ ذلِكَ أي الأمر ذلك يعني ما ذكر من أعمال الحج وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ أي ما نهى اللّه عنه من معاصيه وتعظيمها ترك ملابستها وقيل : حرمات اللّه ما لا يحل انتهاكه وقيل الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه وقيل : الحرمات هنا مناسك الحج وتعظيمها إقامتها وإتمامها وقيل الحرمات هنا البيت الحرام والبلد الحرام والمسجد الحرام والشهر الحرام ومعنى التعظيم العلم بأنه يجب القيام بمراعاتها وحفظ حرمتها فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي ثواب تعظيم الحرمات خير له عند اللّه في الآخرة وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ أي أن تأكلوها بعد الذبح وهي الإبل والبقر والغنم إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي تحريمه وهو قوله في سورة المائدة حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ الآية فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ أي اتركوا عبادتها فإنها سبب الرجس وهو العذاب وقيل سمى الأوثان رجسا لأنّ عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ يعني الكذب والبهتان.
وقال ابن عباس : هي شهادة الزور وروي عن أيمن بن خريم قال :«إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قام خطيبا فقال أيها الناس عدلت شهادة الزور الإشراك باللّه ثم قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور» أخرجه الترمذي وقال قد اختلفوا في روايته ولا نعرف لأيمن سماعا من النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وأخرجه أبو داود عن خريم بن فاتك بنحوه وقيل : هو قول المشركين في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه وما ملك. قوله تعالى :
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣١ الى ٣٤]
حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤)
حُنَفاءَ لِلَّهِ يعني مخلصين له غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ فدل ذلك على أن المكلف ينوي بما يأتيه من العبادة الإخلاص للّه بها لا غيره وقيل كانوا في الشرك يحجون ويحرمون البنات والأمهات والأخوات وكانوا حنفاء فنزلت «حنفاء للّه غير مشركين به» أي حجوا للّه مسلمين موحدين ومن أشرك لا يكون حنيفا وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ أي سقط مِنَ السَّماءِ إلى الأرض فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ يعني تسلبه وتذهب به أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ يعني تميل وتذهب به فِي مَكانٍ سَحِيقٍ يعني بعيد. ومعنى الآية أنّ من أشرك باللّه بعيد من الحق والإيمان كبعد من سقط من السماء فذهبت به الطير أو هوت به الريح فلا يصل إليه بحال وقيل شبه حال المشرك بحال الهاوي


الصفحة التالية
Icon