لباب التأويل، ج ٣، ص : ٢٦١
جبريل فقال : يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن اللّه تعالى فحزن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حزنا شديدا وخاف من اللّه تعالى خوفا كبيرا فأنزل اللّه تعالى هذه الآية يعزيه وكان به رحيما وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. وبلغهم سجود قريش وقيل قد أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم وقالوا : هم أحب إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا يحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلا فلم يدخل أحد منهم إلّا بجوار أو مستخفيا. فلما نزلت هذه الآية قالت قريش : ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند اللّه فغير ذلك وكان الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد وقعا في فم كل مشرك فازدادوا شرا إلى ما كانوا عليه وشدة على من أسلم وقوله وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ الرسول هو الذي يأتيه جبريل بالوحي عيانا وَلا نَبِيٍّ النبي هو الذي تكون نبوته إلهاما، أو مناما فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا إلا إذا تمنى يعني أحب شيئا واشتهاه وحدث به نفسه مما لم يؤمر به أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ يعني في مراده وقال ابن عباس : إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه ووجد إليه سبيلا. والمعنى ما من نبي «إلا تمنى» أن يؤمن قومه ولم يتمن ذلك نبي إلا ألقى الشيطان عليه ما يرضى قومه فينسخ اللّه ما يلقي الشيطان. وقال أكثر المفسرين معنى تمنى قرأ وتلا كتاب اللّه ألقى الشيطان في أمنيته يعني في تلاوته قال
حسان في عثمان حين قتل :
تمنى كتاب اللّه أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر
فإن قلت : قد قامت الدلائل على صدقة وأجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منه بخلاف ما هو به لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا قال اللّه تعالى : وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى وقال تعالى : لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ فكيف يجوز الغلط على النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في التلاوة وهو معصوم منه؟. قلت ذكر العلماء عن هذا الإشكال أجوبة : أحدها : توهين أصل هذه القصة وذلك أنه لم يروها أحد من أهل الصحة ولا أسندها ثقة بسند صحيح أو سليم متصل وإنما رواها المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم والذي يدل على ضعيف هذه القصة اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها فقائل يقول إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان في الصلاة وآخر يقول قرأها وهو في نادي قومه وآخر يقول قرأها وقد أصابته سنة وآخر يقول بل حدث نفسه بها فجرى ذلك على لسانه وآخر يقول إن الشيطان قالها على لسان النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وإن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا عرضها على جبريل قال ما هكذا أقرأتك إلى غير ذلك من اختلاف ألفاظها والذي جاء في الصحيح من حديث عبد اللّه بن مسعود أن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير أن شيخا من قريش أخذ كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته قال عبد اللّه فلقد رأيته بعد قتل كافرا». أخرجه البخاري ومسلم وصح من حديث ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس». رواه البخاري فهذا الذي جاء في الصحيح لم يذكر فيه أن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ذكر تلك الألفاظ ولا قرأها والذي ذكره المفسرون عن ابن عباس في هذه القصة.
فقد رواه عنه الكلبي وهو ضعيف جدا فهذا توهين هذه القصة الجواب الثاني : وهو من حيث المعنى هو أنّ الحجة قد قامت بالدليل الصحيح وإجماع الأمة على عصمة النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة وهو تمنيه أن ينزل عليه مدح إله غير اللّه أو أن يتسور عليه الشيطان ويشبه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه حتى نبهه جبريل عن ذلك فهذا كله ممتنع في حقه صلّى اللّه عليه وسلّم قال اللّه عزّ وجلّ «و لو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين». الآية الجواب الثالث : في تسليم وقوع هذه القصة وسبب سجود الكفار أن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا قرأ يرتل القرآن ترتيلا ويفصل الآي تفصيلا كما صح عنه في قراءته فيحتمل أن الشيطان ترصد لتلك السكنات فدس فيها ما اختلقه من تلك الكلمات محاكيا لصوت النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فسمعه من دنا منه من الكفار فظنوها من قول النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فسجدوا معه لسجوده فأما المسلمون فلم يقدح ذلك عندهم لتحققهم من حال النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ذم الأوثان وعيبها وإنهم كانوا يحفظون السورة كما


الصفحة التالية
Icon