لباب التأويل، ج ٣، ص : ٢٦٩
ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس» أخرجه الترمذي هُمْ فِيها خالِدُونَ أي لا يخرجون منها ولا يموتون. قوله عزّ وجلّ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني ولد آدم الإنسان اسم جنس مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ قال ابن عباس السلالة صفوة الماء وقيل هي المني لأن النطفة تسل من الظهر من طين يعني طين آدم لأن السلالة تولدت من طين خلق منه آدم وقيل : المراد من الإنسان هو آدم، وقوله من سلالة أي سل من كل تربة ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً يعني الذي هو الإنسان جعلناه نطفة فِي قَرارٍ مَكِينٍ أي حريز وهو الرحم وسمي مكينا لاستقرار النطفة فيه إلى وقت الولادة ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أي صيرنا النطفة قطعة دم جامد فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً أي جعلنا الدم الجامد قطعة لحم صغيرة فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً وذلك لأن اللحم يستر العظم فجعله كالكسوة له.
قيل إن بين كل خلق وخلق أربعين يوما ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أي مباينا للخلق الأول قال ابن عباس : هو نفخ الروح فيه وقيل جعله حيوانا بعد ما كان جمادا وناطقا بعد ما كان أبكم وسميعا وكان أصم وبصيرا وكان أكمه وأودع باطنه وظاهره عجائب صنعه وغرائب فطره وعن ابن عباس قال : إن ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الرضاع إلى القعود والقيام إلى المشي إلى الفطام إلى أن يأكل ويشرب إلى أن يبلغ الحلم ويتقلب في البلاد إلى ما بعدها فَتَبارَكَ اللَّهُ أي استحق التعظيم والثناء بأنه لم يزل ولا يزال أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أي المصورين والمقدرين. فإن قلت كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وقوله هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ؟. قلت الخلق له معان : منها الإيجاد والإبداع ولا موجد ولا مبدع إلّا اللّه تعالى. ومنها التقدير كما قال الشاعر :
ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
معناه أنت تقدّر الأمور وتقطعها وغيرك لا يفعل ذلك فعلى هذا يكون معنى الآية اللّه أحسن المقدرين.
وجواب آخر وهو أنّ عيسى عليه الصلاة والسلام خلق طيرا وسمّى نفسه خالقا بقوله أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فقال فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد ما ذكر من تمام الخلق لَمَيِّتُونَ أي عند انقضاء آجالكم ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ أي للحساب والجزاء. قوله عزّ وجلّ وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ يعني سبع سموات طرائق لأن بعضها فوق بعض وقيل لأنها طرائق الملائكة في الصعود والهبوط وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ يعني بل كنا لهم حافظين من أن تسقط السماء عليهم فتهلكهم. وقيل معناه بنينا فوقهم سماء أطلعنا فيها الشمس والقمر والكواكب. وقيل ما تركناهم سدى بغير أمر ونهي وقيل معناه إنما خلقنا السماء فوقهم لتنزل عليهم الأرزاق والبركات منها. وقيل معناه وما كنا عن الخلق غافلين أي عن أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم لا تخفى علينا خافية وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ أي يعلمه اللّه من حاجتهم إليه وقيل بقدر ما يكفيهم لمعايشهم في الزرع والغرس والشرب وأنواع المنفعة فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ يعني ما يبقى في الغدران والمستنقعات مما ينتفع به الناس في الصيف عند انقطاع المطر. وقيل أسكناه في الأرض ثم أخرجناه منها ينابيع كالعيون والآبار فكل ماء في الأرض من السماء وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ وصح من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال :«سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة» أخرجه مسلم.
وعن ابن عباس عن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال :«إنّ اللّه عزّ وجلّ أنزل من الجنة خمسة أنهار سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل، أنزلها اللّه عزّ وجلّ من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل استودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس فذلك قوله وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل اللّه عزّ وجلّ جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله تعالى وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ فإذا رفعت هذه الأشياء كلها من الأرض فقد أهلها خير


الصفحة التالية
Icon