لباب التأويل، ج ٣، ص : ٢٧٨
آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا أي تسخرون منهم وتستهزءون بهم حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي اشتغالكم بالاستهزاء بهم ذكري وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ نزل في كفار قريش كانوا يستهزئون بالفقراء من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مثل بلال وعمار وصهيب وخباب ثم قال اللّه إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أي على أذاكم واستتهزائكم في الدنيا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ أي جزيتهم بصبرهم الفوز بالجنة قالَ يعني أن اللّه قال للكفار يوم البعث كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي في الدنيا وفي القبور عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ معناه أنهم نسوا مدة لبثهم في الدنيا لعظم ما هم بصدده من العذاب فَسْئَلِ الْعادِّينَ يعني الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصونها عليهم قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ أي ما لبثتم في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا سماه قليلا لأن المرء وإن طال لبثه في الدنيا. فإنه يكون قليلا في جنب ما يلبث في الآخرة لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني قدر لبثكم في الدنيا قوله عزّ وجلّ :
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١١٥ الى ١١٨]
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي لعبا وباطلا لا لحكمة وقيل العبث معناه لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب وإنما خلقتم للعبادة وإقامة أوامر اللّه عزّ وجلّ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ أي في دار الآخرة للجزاء. روى البغوي بسنده عن الحسن :«أن رجلا مصابا مرّ به على ابن مسعود فرقاه في أذنه أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون حتى ختم السورة فبرأ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بما ذا رقيت في أذنه فأخبره فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على الجبل لزال» ثم نزه اللّه تعالى عمّا يصفه به المشركون فقال عزّ وجلّ فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ أي هو التام الملك الجامع لأصناف المملوكات لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ أي الحسن وقيل الرفيع المرتفع وإنما خصّ العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ يعني لا حجة ولا بينة له به إذ لا يمكن إقامة برهان ولا دليل على إلهية غير اللّه ولا حجة في دعوى الشرك فَإِنَّما حِسابُهُ أي جزاؤه عِنْدَ رَبِّهِ أي هو مجازيه بعلمه إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ يعني لا يسعد من جحد وكذب وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.