لباب التأويل، ج ٣، ص : ٣١
التي كان آباؤنا يعبدونها فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ يعني حجة بينة واضحة على صحة دعواكم قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يعني أن الكفار لما قالوا لرسلهم : إن أنتم إلا بشر مثلنا قالت لهم رسلهم مجيبين لهم : هب أن الأمر كما قلتم ووصفتم فنحن بشر مثلكم لا ننكر ذلك وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني بالنبوة والرسالة فيصطفي من يشاء من عباده لهذا المنصب العظيم الشريف وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ يعني
وليس لنا مع ما خصنا اللّه به من النبوة وشرفنا به من الرسالة أن نأتيكم بآية، وبرهان ومعجزة تدل على صدقنا إلا بإذن اللّه لنا في ذلك وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يعني في دفع شرور أعدائهم عنهم وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ يعني أن الأنبياء قالوا أيضا قد عرفنا أنه لا يصيبنا شيء إلا بقضاء اللّه وقدره فنحن نثق به ونتوكل عليه في دفع شروركم عنا وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا يعني وقد عرفنا طريق النجاة، وبين لنا الرشد وَلَنَصْبِرَنَّ اللام لام القسم تقديره واللّه لنصبرن عَلى ما آذَيْتُمُونا يعني به من قول أو فعل وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ. فإن قلت : كيف كرر الأمر بالتوكل؟ وهل من فرق بين التوكلين؟ قلت : نعم التوكل الأول فيه إشارة إلى استحداث التوكل والتوكل الثاني فيه إشارة إلى السعي في التثبيت على ما استحدثوا من توكلهم وإبقائه وإدامته فحصل الفرق بين التوكلين. قوله تعالى : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا يعني ليكونن أحد الأمرين إما إخراجكم أيها الرسل من بلادنا وأرضنا وإما عودكم في ملتنا.
فإن قلت : هذا يوهم بظاهره أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعود فيها قلت : معاذ اللّه ولكن العود هنا بمعنى الصيرورة وهو كثير في كلام العرب، وفيه وجه آخر، وهو أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل الرسالة لم يظهروا خلاف أممهم، فلما أرسلوا إليهم أظهروا مخالفتهم ودعوا إلى اللّه فقالوا لهم : لتعودن في ملتنا ظنا منهم أنهم كانوا على ملتهم ثم خالفوهم وإجماع الأمة على أن الرسل من أول الأمر إنما نشئوا على التوحيد لا يعرفون غيره فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ يعني أن اللّه تعالى أوحى إلى رسله وأنبيائه بعد هذه المخاطبات والمحاورات لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ يعني أن عاقبة أمرهم إلى الهلاك فلا تخافوهم وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني من بعد هلاكهم ذلِكَ يعني ذلك الإسكان لِمَنْ خافَ مَقامِي يعني خاف مقامه بين يدي يوم القيامة فأضاف قيام العبد إلى نفسه، لأن العرب قد تضيف أفعالها إلى أنفسها كقولهم : ندمت على ضربي إياك وندمت على ضربك مثله وَخافَ وَعِيدِ أي وخاف عذابي. قوله عز وجل :
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٥ الى ٢٢]
وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩)
وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢)


الصفحة التالية
Icon