لباب التأويل، ج ٣، ص : ٣٣
في هذه الأعمال ما هي فقيل : هي ما عملوه من أعمال الخير في حال الكفر كالصدقة وصلة الأرحام، وفك الأسير وإقراء الضيف وبر الوالدين، ونحو ذلك من أعمال البر والصلاح فهذه الأعمال، وإن كانت أعمال بر لكنها لا تنفع صاحبها يوم القيامة بسبب كفره لأن كفره أحبطها وأبطلها كلها وقيل : المراد بالأعمال عبادتهم الأصنام التي ظنوا أنها تنفعهم فبطلت وحبطت ولم تنفعهم البتة، ووجه خسرانهم أنهم أتعبوا أبدانهم في الدهر الطويل
لكي ينتفعوا بها فصارت وبالا عليهم. وقيل : أراد بالأعمال الأعمال التي عملوها في الدنيا وأشركوا فيها غير اللّه فإنها لا تنفعهم لأنها صارت كالرماد الذي ذرته الريح وصار هباء لا ينتفع به وهو قوله تعالى : لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا يعني في الدنيا عَلى شَيْءٍ يعني من تلك الأعمال والمعنى أنهم لا يجدون ثواب أعمالهم في الآخرة ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ يعني ذلك : الخسران الكبير لأن أعمالهم ضلت وهلكت، فلا يرجى عودها والبعيد هنا الذي لا يرجى عوده أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يعني لم يخلقهما باطلا ولا عبثا وإنما خلقها لأمر عظيم وغرض صحيح إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يعني أيها الناس وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يعني : سواكم أطوع للّه منكم. والمعنى : أن الذي قدر على خلق السموات والأرض، قادر على إفناء قوم وإماتتهم وإيجاد خلق آخر سواهم لأن القادر لا يصعب عليه شيء. وقيل هذا خطاب لكفار مكة يريد يمتكم يا معشر الكفار، ويخلق قوما غيركم خيرا منكم وأطوع وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ يعني بممتنع لأن الأشياء كلها سهلة على اللّه، وإن جلت وعظمت. قوله عز وجل وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً يعني وخرجوا من قبورهم إلى اللّه ليحاسبهم ويجازيهم على قدر أعمالهم والبراز الفضاء، وبرز حصل في البراز وذلك أن يظهر بذاته كلها والمعنى، وخرجوا من قبورهم وظهروا إلى الفضاء وأورد بلفظ الماضي وإن كان معناه الاستقبال لأن كل ما أخبر اللّه عنه، فهو حق وصدق.
وكائن لا محالة فصار كأنه قد حصل ودخل في الوجود فَقالَ الضُّعَفاءُ يعني الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهم القادة والرؤساء إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً يعني في الدين والاعتقاد فَهَلْ أَنْتُمْ يعني في هذا اليوم مُغْنُونَ عَنَّا يعني دافعون عنا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ من هنا للتبعيض والمعنى هل تقدرون على أن تدفعوا عنا بعض عذاب اللّه الذي حل بنا قالُوا يعني الرؤساء والقادة، والمتبوعين للتابعين لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ يعني لو أرشدنا اللّه لأرشدناكم ودعوناكم إلى الهدى ولكن لما أضلنا دعوناكم إلى الضلالة سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا يعني مستويان علينا الجزع والصبر. والجزع، أبلغ من الحزن لأنه يصرف الإنسان عما هو بصدده، ويقطعه عنه ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ يعني من مهرب، ولا منجاة مما نحن فيه من العذاب. قال مقاتل : يقولون في النار تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم الجزع فيقولون : تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم الصبر فعند ذلك يقولون سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص. وقال محمد بن كعب القرظي : بلغني أن أهل النار يستغيثون بالخزنة كما قال اللّه وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب فردت الخزنة عليهم وقالوا ألم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى فردت الخزنة وقالوا ادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال فلما يئسوا مما عند الخزنة، نادوا يا مالك ليقض علينا ربك سألوا الموت فلا يجيبهم ثمانين سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوما واليوم كألف سنة مما تعدون ثم يجيبهم بقوله : إنكم ماكثون فلما يئسوا مما عنده قال بعضهم لبعض : تعالوا فلنصبر كما صبر أهل الطاعة لعل ذلك ينفعنا فصبروا وطال صبرهم فلم ينفعهم وجزعوا، فلم ينفعهم عند ذلك قالوا : سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص.
قوله تعالى وَقالَ الشَّيْطانُ يعني إبليس لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ يعني لما فرغ منه وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. يأخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه، وتوبيخه، فيقوم فيها خطيبا قال مقاتل : يوضع له منبر في النار فيجتمع عليه أهل النار يلومونه فيقول لهم : ما أخبر اللّه عنه بقوله إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ فيه إضمار تقديره فصدق في وعده وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ يعني الوعد. وقيل يقول : لهم إني قلت لكم لا بعث ولا جنة ولا نار وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ