لباب التأويل، ج ٣، ص : ٣٥٥
قوله تعالى وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً أي قائمة واقفة وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أي تسير سير السحاب حتى تقع على الأرض فتستوي بها وذلك أن كل شيء عظيم وكل جسم كبير وكل جمع كثير يقصر عنه البصر لكثرته وعظمه وبعد ما بين أطرافه فهو في حساب الناظر واقف وهو سائر كذلك سير الجبال يوم القيامة لا يرى لعظمها كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ يعني أنه تعالى، لما قدم هذه الأشياء كلها التي لا يقدر عليها غيره جعل ذلك الصنع من الأشياء التي أتقنها وأحكمها وأتى بها على وجه الحكمة والصواب إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ. قوله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ أي بكلمة الإخلاص، وهي شهادة أن لا إله إلا اللّه وقيل الإخلاص في العمل، وقيل الحسنة كل طاعة عملها للّه عز وجل فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها قال ابن عباس فيها يصل إلى الخير بمعنى أن له من تلك الحسنة خير يوم القيامة وهو الثواب والأمن من العذاب أما من يكون له شيء خير من الإيمان فلا، لأنه لا شيء خير من لا إله إلا اللّه، وقيل : هو جزاء الأعمال والطاعات الثواب والجنة وجزاء الإيمان والإخلاص رضوان اللّه والنظر إليه لقوله «و رضوان من اللّه» وقيل : معنى خير منها الأضعاف أعطاه اللّه بالواحدة عشر أضعافها، لأن الحسنة استحقاق العبد والتضعيف تفضيل الرب تبارك وتعالى وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ فإن قلت كيف نفى الفزع هنا وقد قال قبله ففزع من في السموات ومن في الأرض.
قلت : إن الفزع الأول هو ما لا يخلو عنه أحد عند الإحساس بشدة تقع وهول يفجأ من رعب وهيبة وإن كان المحسن يأمن وصول ذلك الضرر إليه فأما الفزع الثاني فهو الخوف من العذاب فهم آمنون منه. وأما ما يلحق الإنسان من الرعب عند مشاهدة الأهوال فلا ينفك منه أحد وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ يعني بالشرك فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ عبر بالوجه عن جميع البدن كأنه قال كبوا وطرحوا جميعهم في النار هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي تقول لهم خزنة جهنم «هل تجزون إلا ما كنتم تعملون» في الدنيا من الشرك.
وقوله تعالى إِنَّما أُمِرْتُ يعني يقول اللّه تعالى لرسوله قل إنما أمرت أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ يعني أمرت أن أخص بعبادتي وتوحيدي اللّه الذي هو رب هذه البلدة يعني مكة، وإنما خصها من بين سائر البلاد بالذكر لأنها مضافة إليه وأحب البلاد وأكرمها عليه، وأشار إليها إشارة تعظيم لأنها موطن نبيه ومهبط وحيه الَّذِي حَرَّمَها أي جعلها اللّه حرما آمنا لا يسفك فيها دم ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد صيدها ولا يختلى خلاها ولا يدخلها إلا محرم، وإنما ذكر أنه هو الذي حرمها لأن العرب كانوا معترفين بفضيلة مكة، وأن تحريمها من اللّه لا من الأصنام وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ أي خلقا وملكا وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ للّه المطيعين له وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أي أمرت أن أتلو القرآن ولقد قام صلّى اللّه عليه وسلّم بكل ما أمر به أتم قيام على ما أمر به فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي نفع اهتدائه يرجع إليه وَمَنْ ضَلَّ أي عن الإيمان وأخطأ طريق الهدى فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ أي من المخوفين، وما علي إلا البلاغ نسختها آية القتال وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أي على جميع نعمه، وقيل : على ما وفقني من القيام بأداء الرسالة والإنذار سَيُرِيكُمْ آياتِهِ الباهرة ودلائله القاهرة قيل : هو يوم بدر وهو ما أراهم من القتل والسبي وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم وقيل : آياته في السموات والأرض وفي أنفسكم فَتَعْرِفُونَها أي فتعرفون الآيات والدلالات وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيه وعيد بالجزاء على أعمالهم واللّه سبحانه وتعالى أعلم.


الصفحة التالية
Icon