لباب التأويل، ج ٣، ص : ٣٨٥
فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ
قيل معناه أنهم يعتقدون هذا فكيف يصرفون عن عبادة اللّه مع إقرارهم أنه خلق السموات والأرض اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لما ذكر الخلق ذكر الرزق لأن كمال الخلق ببقائه وبقاء الخلق بالرزق واللّه تعالى هو المتفضل بالرزق على الخلق فله الفضل والإحسان والطول والامتنان وَيَقْدِرُ لَهُ أي يضيق عليه إذا شاء إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي يعلم مقادير الحاجات ومقادير الأرزاق وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ذكر سبب الرزق وموجد السبب موجد المسبب فالرزق من اللّه تعالى قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أي على أن الفاعل لهذه الأشياء هو اللّه تعالى : وقيل قل الحمد للّه على إقرارهم ولزوم الحجة عليهم بأنه خالق لهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي أنهم ينكرون التوحيد مع إقرارهم بأنه خالق هذه الأشياء. قوله تعالى وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ اللهو هو الاستمتاع بلذة الدنيا وقيل هو الاشتغال بما لا يعنيه وما لا يهمه واللعب هو العبث وفي هذا تصغير للدنيا وازدراء بها ومعنى الآية أن سرعة زوال الدنيا عن أهلها وتقلبهم فيها وموتهم عنها كما يلعب الصبيان ساعة ثم ينصرفون وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ أي الحياة الدائمة الخالدة التي لا موت فيها لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ فناء الدنيا وبقاء الآخرة لما آثروا الفاني على الباقي. قوله عز وجل فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ معناه هم على ما وصفوا به من الشرك والعناد فإذا ركبوا في الفلك وخافوا الغرق دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي تركوا الأصنام ولجئوا إلى اللّه تعالى بالدعاء فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ أي عادوا إلى ما كانوا عليه من الشرك والعناد.
وقيل : كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا الأصنام فإذا اشتد الريح ألقوها في البحر وقالوا يا رب يا رب لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ أي ليجحدوا نعمة اللّه في إجابته إياهم ومعناه التهديد والوعيد وَلِيَتَمَتَّعُوا معناه لا فائدة لهم في الإشراك إلا التمتع بما يستمتعون به في العاجلة ولا نصيب لهم في الآخرة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ يعني عاقبة أمرهم ففيه تهديد ووعيد. قوله عز وجل أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ يعني العرب يسبي بعضهم بعضا وأهل مكة آمنون أَفَبِالْباطِلِ يعني الشيطان والأصنام يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ أي بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والإسلام يكفرون وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي فزعم أن له شريكا فإنه منزه عن الشركاء أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ أي بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ معناه أما لهذا الكافر المكذب مأوى في جهنم. قوله عز وجل وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا معناه جاهدوا المشركين لنصر ديننا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا لنثيبنهم ما قاتلوا عليه. وقيل لنزيدنهم هدى وقيل لنوفينهم لإصابة الطرق المستقيمة وهي التي توصل إلى رضا اللّه تعالى. قال سفيان بن عيينة : إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور فإن اللّه تعالى يقول : وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وقيل المجاهدة الصبر على الطاعات ومخالفة الهوى وقال الفضيل بن عياض والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العلم والعمل به وقال سهل بن عبد اللّه والذين جاهدوا فينا بإقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة.
وقال ابن عباس : والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ أي بالنصرة والمعونة في دنياهم والمغفرة في عقباهم في الآخرة وثوابهم الجنة واللّه أعلم.


الصفحة التالية
Icon