لباب التأويل، ج ٣، ص : ٣٩
المستمرة دائما على حالة واحدة ودأب في السير داوم عليه، والمعنى أن اللّه سخر الشمس والقمر، يجريان دائما فيما يعود إلى مصالح العباد لا يفتران إلى آخر الدهر، وهو انقضاء عمر الدنيا وذهابها. قال ابن عباس : دؤبها في طاعة اللّه عز وجل. وقال بعضهم : معناه يدأبان في طاعة اللّه أي في مسيرهما وتأثيرهما في إزالة الظلمة وإصلاح النبات والحيوان لأن الشمس سلطان النهار وبها تعرف فصول السنة والقمر سلطان الليل، وبه يعرف انقضاء الشهور وكل ذلك بتسخير اللّه عز وجل، وإنعامه على عباده وتسخيره لهم وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يعني يتعاقبان في الضياء والظلمة والنقصان، والزيادة وذلك من إنعام اللّه على عباده وتسخيره لهم وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ لما ذكر اللّه سبحانه وتعالى النعم العظام التي أنعم اللّه بها على عباده وسخرها لهم بين بعد ذلك، أنه تعالى لم يقتصر على تلك النعم بل أعطى عباده من المنافع والمرادات ما لا يأتي على بعضها العد والحصر.
والمعنى : وآتاكم من كل ما سألتموه شيئا فحذف شيئا اكتفاء بدلالة الكلام على التبعيض، وقيل : هو على التكثير يعني وآتاكم من كل شيء سألتموه، وما لم تسألوه لأن نعمه علينا أكثر من أن تحصى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها يعني أن نعم اللّه كثيرة على عباده، فلا يقدر أحد على حصرها ولا عدها لكثرتها إِنَّ الْإِنْسانَ قال ابن عباس : يريد أبا جهل، وقال الزجاج : هو اسم جنس ولكن يقصد به الكافر لَظَلُومٌ كَفَّارٌ يعني ظلوم لنفسه كفار بنعمة ربه، وقيل : الظلوم الشاكر لغير من أنعم عليه فيضع الشكر في غير موضعه كفار جحود لنعم اللّه عليه.
وقيل : يظلم النعمة بإغفال شكرها كفار شديد الكفران لها، وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع بالنعمة يجمع ويمنع. قوله سبحانه وتعالى وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً يعني ذا آمن يؤمن فيه وأراد بالبلد مكة.
فإن قلت : أي فرق بين قوله اجعل هذا بلدا آمنا وبين قوله اجعل هذا البلد آمنا؟ قلت : الفرق بينهما أنه سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها فيها ولا يخافون وسأل في الثاني أن يخرج هذا البلد من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال : هو بلد مخوف فاجعله آمنا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ يعني أبعدني وبنيّ أن نعبد الأصنام. فإن قلت قد توجه على هذه الآية إشكالات وهي من وجوه : الأول أن إبراهيم دعا ربه أن يجعل مكة آمنة ثم إن جماعة من الجبابرة وغيرهم، قد أغاروا عليها وأخافوا أهلها. الوجه الثاني : أن الأنبياء عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام معصومون عن عبادة الأصنام، وإذا كان كذلك فما الفائدة في قوله اجنبني عن عبادتها. الوجه الثالث : أن إبراهيم عليه السلام سأل ربه أيضا أن يجنب بنيه عن عبادة الأصنام، وقد وجد كثير من بنيه عبد الأصنام مثل كفار قريش، وغيرهم ممن ينسب إلى إبراهيم عليه السلام.
قلت : الجواب عن الوجوه المذكورة من وجوه : فالجواب على الوجه الأول : من وجهين أحدهما أن إبراهيم عليه السلام لما فرغ من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء، والمراد منه جعل مكة آمنة من الخراب، وهذا موجود بحمد اللّه ولم يقدر أحد على خراب مكة، وأورد على هذا ما ورد في الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة» أخرجاه في الصحيحين. وأجيب عنه بأن قوله : اجعل هذا البلد آمنا يعني إلى قرب القيامة وخراب الدنيا وقيل : هو عام مخصوص بقصة ذو السويقتين فلا تعارض بين النصين.
الوجه الثاني : أن يكون المراد اجعل أهل هذا البلد آمنين، وهذا الوجه عليه أكثر العلماء من المفسرين وغيرهم وعلى هذا فقد اختص أهل مكة بزيادة الأمن في بلدهم كما أخبر اللّه سبحانه وتعالى بقوله : ويتخطف الناس من حولهم، وأهل مكة آمنون من ذلك حتى إن من التجأ إلى مكة أمن على نفسه وما له من ذلك، وحتى إن الوحوش إذا كانت خارجة من الحرم استوحشت فإذا دخلت الحرم أمنت واستأنست لعلمها أنها لا يهيجها أحد في الحرم وهذا القدر من الأمن حاصل بحمد اللّه بمكة وحرمها وأما الجواب عن الوجه الثاني : فمن وجوه أيضا :
الوجه الأول : أن دعاء إبراهيم عليه السلام لنفسه لزيادة العصمة والتثبيت، فهو كقوله واجعلنا مسلمين لك.
الوجه الثاني : أن إبراهيم عليه السلام، وإن كان يعلم أن اللّه سبحانه وتعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه دعا


الصفحة التالية
Icon