لباب التأويل، ج ٣، ص : ٤٠٦
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ أي مما تقربه أعينهم فلا يلتفتون إلى غيره قال ابن عباس هذا مما لا تفسير له وقيل أخفوا أعمالهم فأخفى اللّه ثوابهم جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي من الطاعات في دار الدنيا (ق) عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال «يقول اللّه تبارك وتعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرءوا إن شئتم : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين». قوله تعالى أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط، كان بينهما تنازع وكلام في شيء، فقال الوليد لعلي اسكت فإنك صبي وأنا شيخ وإني أبسط منك لسانا، وأحد منك سنانا وأشجع منك جنانا وأملأ منك حشوا في الكتيبة، فقال له علي اسكت فإنك فاسق، فأنزل اللّه هذه الآية وقوله لا يستوون أراد جنس المؤمنين وجنس الفاسقين ولم يرد مؤمنا واحدا ولا فاسقا واحدا أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى أي التي يأوي إليها المؤمنون نُزُلًا هو ما يهيأ للضيف عند نزوله بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني من الطاعات في دار الدنيا وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ.
قوله تعالى وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ أي سوى العذاب الأكبر، قال ابن عباس العذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها، وعنه أنه الحدود وقيل هو الجوع بمكة حتى أكلوا الجيف والعظام والكلاب سبع سنين، وقال ابن مسعود هو القتل بالسيف يوم بدر والأكبر هو عذاب جهنم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي إلى الإيمان يعني من بقي منهم بعد القحط وبعد بدر وَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد أظلم مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ أي بدلائل وحدانيته وإنعامه عليه ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها أي ترك الإيمان بها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ يعني المشركين مُنْتَقِمُونَ معناه أنهم لما لم يرجعوا بالعذاب الأدنى فانا منهم منتقمون بالعذاب الأكبر. قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ أي في شك مِنْ لِقائِهِ أي من لقاء موسى ليلة المعراج، قاله ابن عباس (ق) عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال «رأيت ليلة أسري بي موسى رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة ورأيت عيسى رجلا موبوعا مربوع الخلق إلى الحمرة وإلى البياض سبط الشعر، ورأيت مالكا خازن النار، والدجال في آيات أراهن اللّه إياه فلا تكن في مرية من لقائه (م) عن أنس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال «أتيت على موسى ليلة المعراج ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره». فإن قلت قد صح في حديث المعراج أنه رآه في السماء السادسة عند مراجعته في الصلوات فكيف الجمع بين هذين الحديثين. قلت يحتمل أن تكون رؤيته في قبره عند الكثيب الأحمر، كان قبل صعوده إلى السماء وذلك في طريقه إلى بيت المقدس، ثم لما صعد إلى السماء السادسة وجده هناك قد سبقه لما يريد اللّه عز وجل وهو على كل شيء قدير.
فإن قلت كيف تصح منه الصلاة في قبره وهو ميت وقد سقط عنه التكليف وهو في دار الآخرة وليست دار عمل، وكذلك رأى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم جماعة من الأنبياء وهم يحجون فما الجواب عن هذا؟ قلت يجاب عنه بأجوبة أحدها : أن الأنبياء كالشهداء بل هم أفضل منهم والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فلا يبعد أن يحجوا أو يصلوا كما صح في الحديث وأن يتقربوا إلى اللّه بما استطاعوا وإن كانوا قد ماتوا لأنهم بمنزلة الأحياء في هذه الدار التي هي دار العمل، إلى أن تفنى ثم يرحلون إلى دار الجزاء التي هي الجنة. الجواب الثاني : أنه صلّى اللّه عليه وسلّم رأى حالهم الذي كانوا عليه في حياتهم ومثلوا له كيف كانوا وكيف كان حجهم وصلاتهم. الجواب الثالث : أن التكليف وإن ارتفع عنهم في الآخرة لكن الذكر والشكر والدعاء لا يرتفع، قال اللّه تعالى دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وقال صلّى اللّه عليه وسلّم «يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس» فالعبد يعبد ربه في الجنة أكثر مما كان يعبده في الدنيا وكيف لا يكون ذلك وقد صار حاله مثل حال الملائكة الذين قال اللّه في حقهم يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ، غاية ما في الباب أن العبادة ليست عليهم بتكليف بل هي على مقتضى الطبع واللّه أعلم، وقيل في قوله فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ