لباب التأويل، ج ٣، ص : ٤١٧
لما فيها من التثريب وهو التقريع والتوبيخ لا مُقامَ لَكُمْ أي لا مكان لكم تنزلون وتقيمون فيه فَارْجِعُوا أي إلى منازلكم وقيل عن اتباع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وقيل عن القتال وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يعني بني حارثة وبني سلمة يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أي خالية ضائعة وهي مما يلي العدو ونخشى عليها السراق فكذبهم اللّه تعالى بقوله وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً أي أنهم لا يخافون ذلك إنما يريدون الفرار من القتال وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها يعني لو دخل هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم وهم الأحزاب من نواحي المدينة وجوانبها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ أي الشرك لَآتَوْها أي لجاءوها وفعلوها ورجعوا عن الإسلام وَما تَلَبَّثُوا بِها أي ما احتبسوا عن الفتنة إِلَّا يَسِيراً أي لأسرعوا الإجابة إلى الشرك طيبة به نفوسهم، وقيل معناه وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا.
قوله عز وجل وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل غزوة الخندق لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ أي لا ينهزمون، قيل هم بنو حارثة هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا اللّه أن لا يعودوا لمثلها، وقيل هم أناس غابوا عن وقعة بدر فلما رأوا ما أعطى اللّه أهل بدر من الكرامة والفضيلة قالوا لئن أشهدنا اللّه قتالا لنقاتلن فساق اللّه إليهم ذلك وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا أي عنده في الآخرة قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ أي الذي كتب عليكم لأن من حضر أجله مات أو قتل لا بد من ذلك وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ أي بعد الفرار إِلَّا قَلِيلًا أي مدة آجالكم وهي قليل قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ أي يمنعكم مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أي هزيمة أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً أي نصرا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي ناصرا يمنعهم قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ أي المثبطين الناس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا أي ارجعوا إلينا ودعوا محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم فلا تشهدوا معه الحرب فإنا نخاف عليكم الهلاك، قيل هم أناس من المنافقين كانوا يثبطون أنصار النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ويقولون لهم ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ولو كانوا لحما لالتهمهم أي ابتلعهم أبو سفيان وأصحابه دعوا الرجل فإنه هالك.
وقيل نزلت في المنافقين وذلك أن اليهود أرسلت إليهم ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه، فإنهم إن قدروا عليكم في هذه المرة لم يستبقوا منكم أحدا وإنا نشفق عليكم فأنتم إخواننا وجيراننا هلموا إلينا فأقبل عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول وأصحابه على المؤمنين يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه، وقالوا لئن قدر اليوم عليكم لم يستبق منك أحدا أما ترجعون عن محمد ما عنده خير ما هو إلا أن يقتلنا ها هنا انطلقوا بنا إلى إخواننا يعني اليهود، فلم يزدد المؤمنين بقول المنافقين إلا إيمانا واحتسابا وقوله تعالى وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ يعني الحرب إِلَّا قَلِيلًا أي رياء وسمعة من غير احتساب ولو كان ذلك القليل للّه لكان كثيرا.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١٩ الى ٢٣]
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أي بخلاء بالنفقة في سبيل اللّه والنصرة وصفهم اللّه بالبخل والجبن فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ


الصفحة التالية
Icon