لباب التأويل، ج ٣، ص : ٤٢٠
طلب القوم. وروى أنه كان الغبار على وجه جبريل وفرسه فجعل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يمسح الغبار عن وجهه ووجه فرسه فقال إن اللّه تعالى يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عامد إلى بني قريظة فانهز إليهم فإني قد قطعت أوتارهم وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبلبال، فأمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مناديا فأذن أن من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة، وقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم علي بن أبي طالب برايته إليهم وابتدرها الناس، وسار علي حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فرجع حتى لقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالطريق فقال : يا رسول اللّه لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث. قال : أظنك سمعت لي منهم أذى قال : نعم يا رسول اللّه قال : لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا فلما دنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من حصونهم قال «يا إخوان القردة قد أخزاكم اللّه وأنزل بكم نقمته».
قالوا : يا أبا القاسم ما كنت جهولا ومر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة فقال «هل مر بكم أحد؟» فقالوا : يا رسول اللّه مر بنا دحية بن خليفة على بغلة بيضاء عليها رحالة وعليها قطيفة ديباج.
فقال صلّى اللّه عليه وسلّم «ذاك جبريل عليه السلام بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم» فلما أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بني قريظة نزل على بئر من آبارها في ناحية أموالهم وتلاحق به الناس فأتاه رجال بعد صلاة العشاء الأخيرة ولم يصلوا العصر لقول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»، فصلوا العصر بها بعد العشاء الأخيرة فما عابهم اللّه بذلك ولا عنفهم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال العلماء : حاصرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وقذف اللّه في قلوبهم الرعب وكان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان ووفى لكعب بن أسد بما كان عاهده، فلما أيقنوا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال كعب بن أسد يا معشر يهود إنكم قد نزل من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم. قالوا : وما هن؟ قال نتابع هذا الرجل ونصدقه فو اللّه لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم فتؤمنون على دياركم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. فقالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره. قال : فإذا أبيتم هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف ولا نترك وراءنا ثقلا يهمنا حتى يحكم اللّه بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئا نخشى عليه وإن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء. قالوا : نقتل هؤلاء المساكين فما في العيش بعدهم خير.
قال : فإن أبيتم هذه الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فانزلوا فلعلنا أن نصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا : نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من قبلنا إلا ما قد علمت فأصابهم من المسخ ما لم يخف عليك. قال : ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه حازما ليلة من الدهر ثم إنهم بعثوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن ابعث لنا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا.
فأرسله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إليهم. فلما رأوه قام إليه الرجال والنساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم. فقالوا : يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد قال نعم وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح، قال أبو لبابة فو اللّه ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت اللّه ورسوله ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حتى ربط في المسجد إلى عمود من عمده وقال واللّه لا أبرح مكاني حتى يتوب اللّه علي مما صنعت وعاهد اللّه لا يطأ أرض بني قريظة أبدا ولا يراني اللّه في بلد قد خنت اللّه ورسوله فيه أبدا. فلما بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خبره وأبطأ عليه قال أما لو قد جاءني لاستغفرت له فأما إذ فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب اللّه عليه، ثم إن اللّه أنزل توبة أبي لبابة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو في بيت أم سلمة قالت أم سلمة فسمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يضحك فقلت : مم ضحكت يا رسول اللّه أضحك اللّه سنك؟ قال : تيب على أبي لبابة. فقلت : ألا أبشره بذلك يا رسول اللّه قال بلى إن شئت قال فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب. فقالت : يا أبا لبابة أبشر فقد تاب اللّه عليك. قال : فثار الناس إليه ليطلقوه فقال لا واللّه حتى يكون رسول اللّه هو الذي يطلقني بيده فلما مر عليه