لباب التأويل، ج ٣، ص : ٤٢٣
الطلاق وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا أي من غير ضرر وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً سبب نزول هذه الآية أن نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سألنه من عرض الدنيا شيئا وطلبن منه زيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض فهجرهن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وآلى أن لا يقربهن شهرا، ولم يخرج إلى أصحابه فقالوا ما شأنه وكانوا يقولون طلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نساءه. فقال عمر : لأعلمن لكم شأنه قال فدخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت : يا رسول اللّه أطلقتهن قال :«لا» قلت : يا رسول اللّه إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون طلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن. قال :«نعم إن شئت» فقمت على باب المسجد وناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نساءه ونزلت هذه الآية وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ فكنت أنا استنبطت هذا الأمر.
وأنزل اللّه آية التخيير وكان تحت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يومئذ تسع نسوة خمسة من قريش وهن : عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان وأم سلمة بنت أبي أمية وسودة بنت زمعة، وأربع من غير قرشيات وهن زينب بنت جحش الأسدية وميمونة بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية وجويرية بنت الحارث المصطلقية، فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعائشة، وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت اللّه ورسوله والدار الآخرة فرؤي الفرح في وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وتابعتها على ذلك فلما اخترن اللّه ورسوله شكرهن اللّه على ذلك وقصره عليهن فقال تعالى لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ (م) عن جابر بن عبد اللّه قال «دخل أبو بكر يستأذن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جالسا وحوله نساؤه واجما ساكتا. فقال : لأقولن شيئا أضحك به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت : يا رسول اللّه لقد رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال «هن حولي كما ترى يسألنني النفقة» فقام أبو بكر إلى عائشة فوجأ عنقها وقام عمر إلى حفصة فوجأ عنقها كلاهما يقول : تسألن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما ليس عنده قلن واللّه لا نسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم شيئا أبدا ليس عنده ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين حتى نزلت هذه الآية :
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ حتى بلغ : لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً قال : فبدأ بعائشة فقال : يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك قالت : وما هو يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فتلا عليها الآية قالت أفيك يا رسول اللّه أستشير أبوي بل أختار اللّه ورسوله والدار الآخرة وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت : قال :«لا تسألني امرأة منهن طلا أخبرتها إن اللّه لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما مبشرا» قوله واجما أي مهتما، والواجم الذي أسكته الهم وعلته الكآبة وقيل الوجوم الحزن. قولهم فوجأت عنقها أي دققته وقوله لم يبعثني معنتا العنت المشقة والصعوبة (م) عن الزهري أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهرا قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة قالت : لما مضت تسع وعشرون ليلة أعدهن دخل علي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بدأ بي فقلت : يا رسول اللّه، أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وإنك دخلت من تسع وعشرين أعدهن قال : إن الشهر تسع وعشرون.
فصل في حكم الآية
اختلف العلماء في هذا الخيار هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن، حتى يقع بنفس الاختيار أم لا فذهب الحسن وقتادة وأكثر أهل العلم، إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق وإنما خيرهن على أنهن إذ اخترن الدنيا فارقهن لقوله تعالى فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ بدليل أنه لم يكن جوابهن على الفور، وأنه قال لعائشة :«لا تعجلي حتى تستشيري أبويك» وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور، وذهب قوم إلى أنه كان تفويض الطلاق ولو اخترن أنفسهن كان طلاقا. التفريع على حكم الآية اختلف أهل العلم في حكم التخيير، فقال عمر