لباب التأويل، ج ٣، ص : ٤٩
أيها الذي نزل عليه الذكر على طريق الاستهزاء وقيل : معناه يا أيها الذي نزل عليه الذكر في زعمه، واعتقاده واعتقاد أصحابه وأتباعه إنك لمجنون في ادعائك الرسالة لَوْ ما قال الزجاج والفراء : لو ما ولولا لغتان ومعناهما هلا يعني هلا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ يعني يشهدون لك بأنك رسول من عند اللّه حقا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ يعني في قولك وادعائك الرسالة ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ يعني بالعذاب أو وقت الموت، وهو قوله تعالى وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ يعني لو نزلت الملائكة إليهم لم يمهلوا ولم يؤخروا ساعة واحدة وذلك أن كفار مكة كانوا يطلبون من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إنزال الملائكة عيانا فأجابهم اللّه عز وجل بهذا، والمعنى لو نزلوا عيانا لزال عن الكفار الإمهال وعذبوا في الحال إن لم يؤمنوا ويصدقوا إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ يعني القرآن أنزلناه عليك يا محمد، وإنما قال سبحانه وتعالى : إنا نحن نزلنا الذكر جوابا لقولهم : يا أيها الذي نزل عليه الذكر فأخبر اللّه عز وجل أنه هو الذي نزل الذكر على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ الضمير في له يرجع إلى الذكر يعني، وإنا للذكر الذي أنزلناه على محمد لحافظون يعني من الزيادة فيه، والنقص منه والتغيير والتبديل والتحريف، فالقرآن العظيم محفوط من هذه الأشياء كلها لا يقدر أحد من جميع الخلق من الجن والإنس أن يزيد فيه، أو ينقص منه حرفا واحدا أو كلمة واحدة، وهذا مختص بالقرآن العظيم بخلاف سائر الكتب المنزلة فإنه قد دخل على بعضها التحريف، والتبديل والزيادة والنقصان ولما تولى اللّه عز وجل حفظ هذا الكتاب بقي مصونا على الأبد محروسا من الزيادة والنقصان، وقال ابن السائب ومقاتل : الكناية في له راجعة إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم يعني وإنا لمحمد لحافظون ممن أراده بسوء فهو
كقوله تعالى «و اللّه يعصمك من الناس» ووجه هذا القول أن اللّه سبحانه وتعالى لما ذكر الإنزال، والمنزل دل ذلك على المنزل عليه وهو محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فحسن صرف الكناية إليه لكونه أمرا معلوما إلا أن القول الأول أصح، وأشهر، وهو قول الأكثرين لأنه أشبه بظاهر التنزيل ورد الكناية إلى أقرب مذكور أولى، وهو الذكر وإذا قلنا : إن الكناية عائدة إلى القرآن، وهو الأصح فاختلفوا في كيفية حفظ اللّه عز وجل للقرآن فقال بعضهم : حفظه بأن جعله معجزا باقيا مباينا لكلام البشر فعجز الخلق عن الزيادة فيه، والنقصان منه لأنهم لو أرادوا الزيادة فيه والنقصان منه لتغيير نظمه، وظهر ذلك لكل عالم عاقل وعلموا ضرورة أن ذلك ليس بقرآن، وقال آخرون : إن اللّه حفظه وصانه من المعارضة فلم يقدر أحد من الخلق أن يعارضه. وقال آخرون : بل أعجز اللّه الخلق عن إبطاله وإفساده بوجه من الوجوه فقيض اللّه له العلماء الراسخين يحفظونه، ويذبون عنه إلى آخر الدهر لأن دواعي
جماعة من الملاحدة واليهود متوفرة على إبطاله وإفساده فلم يقدروا على ذلك بحمد اللّه تعالى قوله سبحانه وتعالى : وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ لما تجرأ كفار مكة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وخاطبوه بالسفاهة وهو قولهم : إنك لمجنون وأساؤوا الأدب عليه أخبر اللّه سبحانه وتعالى نبيه محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم أن عادة الكفار في قديم الزمان مع أنبيائهم، كذلك فلك يا محمد أسوة في الصبر على أذى قومك بجميع الأنبياء ففيه تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وفي الآية محذوف تقديره ولقد أرسلنا رسلا من قبلك يا محمد، فحذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه، وقوله تعالى في شيع الأولين : الشيعة هم القوم المجتمعة المتفقة كلمتهم وقال الفراء : الشيعة هم الأتباع وشيعة الرجل أتباعه. وقيل : الشيعة من يتقوى بهم الإنسان. وقوله في شيع الأولين من باب إضافة الصفة إلى الموصوف وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ السلوك النفاذ في الطريق، والدخول فيه والسلك إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط، ومعنى الآية كما سلكنا الكفر والتكذيب والاستهزاء في قلوب شيع الأولين، كذلك نسلكه أي ندخله في قلوب المجرمين يعني مشركي مكة، وفيه رد على القدرية والمعتزلة وهي أبين آية في ثبوت القدر لمن أذعن للحق، ولم يعاند قال الواحدي قال أصحابنا : أضاف اللّه سبحانه وتعالى إلى نفسه إدخال الكفر في قلوب الكفار، وحسن ذلك منه فمن آمن بالقرآن فليستحسنه، وقال الإمام فخر الدين الرازي : احتجّ أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يخلق الباطل، والضلال في


الصفحة التالية
Icon