لباب التأويل، ج ٣، ص : ٧٨
الكفر، وهم المستضعفون. فأما بلال فكان أصحابه يخرجونه إلى بطحاء مكة في شدة الحر ويشدونه، ويجعلون على صدره الحجارة وهو يقول أحد أحد فاشتراه منهم أبو بكر الصديق وأعتقه واشترى معه ستة نفر آخرين، وأما صهيب فقال لهم إني رجل كبير إن كنت معكم فلن أنفعكم وإن كنت عليكم فلا أضركم فاشترى نفسه بماله فباعوه منه فمر به أبو بكر الصديق. فقال : يا صهيب ربح البيع. وأما باقيهم فأعطوهم بعض ما يريدون، فخلوا عنهم. وقال قتادة : هم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طائفة بالحبشة ثم بوأهم اللّه المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة، فهاجروا إليها وجعل لهم أنصارا من المؤمنين فآووهم ونصروهم وواسوهم، وهذه الآية تدل على فضل المهاجرين، وفضل الهجرة وفيه دليل على أن الهجرة إذا لم تكن للّه خالصة لم يكن لها موقع، وكانت بمنزلة الانتقال من بلد إلى آخر ومنه حديث «الأعمال بالنيات» وفيه «فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» الحديث أخرجاه في الصحيحين من رواية عمر بن الخطاب وقوله تعالى لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً يعني لنبوأنهم تبوئة حسنة وهو أنه تعالى أنزلهم المدينة، وجعلها لهم دار هجرة والمعنى لنبوأنهم في الدنيا دارا حسنة أو بلدة حسنة، وهي المدينة روي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول له : خذ هذا بارك اللّه لك فيه هذا ما وعدك اللّه في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أفضل، ثم يقول هذه الآية.
وقيل : معناه ليحسنن إليهم في الدنيا بأن يفتح لهم مكة، ويمكنهم من أهلها الذين ظلموهم وأخرجوهم منها ثم ينصرهم على العرب قاطبة، وعلى أهل المشرق والمغرب وقيل المراد بالحسنة في الدنيا التوفيق والهداية في الدين وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ يعني أعظم وأفضل وأشرف مما أعطاهم في الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ قيل : الضمير يرجع إلى الكفار لأن المؤمنين يعلمون ما لهم في الآخرة، والمعنى لو كان هؤلاء الكفار يعلمون أن أجر الآخرة أكبر مما هم فيه من نعيم الدنيا لرغبوا فيه، وقيل : إنه راجع إلى المهاجرين والمعنى لو كانوا يعلمون ما أعد اللّه لهم في الآخرة، لزادوا في الجد والاجتهاد والصبر على ما أصابهم من أذى الماكرين الَّذِينَ صَبَرُوا يعني في اللّه على ما نالهم، وبذل الأنفس والأموال في سبيل اللّه وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ يعني في أمورهم كلها قال بعضهم ذكر اللّه الصبر والتوكل في هذه الآية، وهما مبدأ السلوك إلى اللّه تعالى ومنتهاه أما الصبر فهو قهر النفس وحبسها على أعمال البر وسائر الطاعات، واحتمال الأذى من الخلق والصبر عن الشهوات المباحات والمحرمات والصبر
على المصائب، وأما التوكل فالانقطاع عن الخلق بالكلية والتوجه إلى الحق تعالى بالكلية فالأول هو مبدأ السلوك إلى اللّه تعالى، والثاني هو آخر الطريق ومنتهاه وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ نزلت هذه الآية جوابا لمشركي مكة حيث أنكروا نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وقالوا اللّه أعظم وأجل من أن يكون رسوله بشرا فهلا بعث ملكا إلينا فأجابهم اللّه عز وجل بقوله : وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالا يعني مثلك نوحي إليهم والمعنى أن عادة اللّه عز وجل جارية من أول مبدأ الخلق أنه لم يبعث إلا رسولا من البشر فهذه عادة مستمرة، وسنة جارية قديمة فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ يعني أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، وإنما أمرهم اللّه بسؤال أهل الكتاب لأن كفار مكة كانوا يعتقدون أن أهل الكتاب أهل علم، وقد أرسل اللّه إليهم رسلا منهم مثل موسى وعيسى وغيرهم من الرسل، وكانوا بشرا مثلهم فإذا سألوهم فلا بد، وأن يخبروهم بأن الرسل الذين أرسلوا إليهم كانوا بشرا، فإذا أخبروهم بذلك زالت الشبهة عن قلوبهم إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ الخطاب لأهل مكة يعني إن كنتم يا هؤلاء لا تعلمون ذلك بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ اختلفوا في المعنى الجالب لهذه الباء فقيل المعنى، وما أرسلنا من قبلك بالبيّنات والزبر إلا رجالا يوحى إليهم أرسلناهم بالبينات والزبر، وقيل الذكر بمعنى العلم في قوله فاسألوا أهل الذكر يعني أهل العلم والمعنى فاسئلوا أهل الذكر الذي هو العلم بالبينات والزبر إن كنتم لا تعلمون أنتم ذلك. والبينات والزبر اسم جامع لكل ما يتكامل به أمر الرسالة،