لباب التأويل، ج ٣، ص : ٨١
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ لما أخبر اللّه عز وجل في الآية المتقدمة أن كل ما في السموات والأرض خاضعون للّه، منقادون لأمره عابدون له، وأنهم في ملكه وتحت قدرته، وقبضته نهى في هذه الآية عن الشرك، وعن اتخاذ إلهين اثنين فقال «و قال اللّه لا تتخذوا إلهين اثنين» قال الزجاج : ذكر الاثنين توكيدا لقوله إلهين وقال صاحب النظم : فيه تقديم وتأخير تقديره، لا تتخذوا اثنين إلهين يعني أن الاثنين لا يكون كل واحد منهما إلها، ولكن اتخذوا إلها واحدا، وهو قوله تبارك وتعالى إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ لأن الإلهين لا يكونان إلا متساويين في الوجود والقدم وصفات الكمال والقدرة والإرادة، فصارت الاثنينية منافية للإلهية، وذلك قوله تعالى إنما هو إله واحد يعني لا يجوز أن يكون في الوجود إلهان اثنان إنما هو إله واحد فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ يعني فخافون والرهب مخافة مع حزن، واضطراب وإنما نقل الكلام من الغيبة إلى الحضور، وهو من طريق الالتفات لأنه أبلغ في الترهيب من قوله، فإياه فارهبوا فهو من بديع الكلام وبليغه وقوله فإياي فارهبون يفيد الحصر، وهو أن لا يرهب الخلق إلا منه ولا يرغبون إلا إليه وإلى كرمه وفضله وإحسانه وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لما ثبت بالدليل الصحيح والبرهان الواضح أن إله العالم لا شريك له في الإلهية، وجب أن يكون جميع المخلوقات عبيدا له وفي ملكه وتصرفه، وتحت قدرته فذلك قوله تعالى وله ما في السموات والأرض يعني، عبيدا وملكا وَلَهُ الدِّينُ واصِباً يعني وله العبادة والطاعة وإخلاص العمل دائما ثابتا والواصب : الدائم.
قال ابن قتيبة : ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك لسبب في حال الحياة أو بالموت، إلا الحق سبحانه وتعالى فإن طاعته واجبة أبدا، ولأنه المنعم على عباده المالك لهم فكانت طاعته واجبة دائما أبدا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ يعني أنكم عرفتم أن اللّه واحد لا شريك له في ملكه، وعرفتم أن كل ما سواه محتاج إليه فبعد هذه المعرفة كيف تخافون غيره، وتتقون سواه فهو استفهام بمعنى التعجب وقيل هو استفهام على طريق الإنكار قوله عز وجل وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ يعني من نعمة الإسلام، وصحة الأبدان وسعة الأرزاق، وكل ما أعطاكم من مال أو ولد فكل ذلك من اللّه تعالى، إنما هو المتفضل به على عباده فيجب عليكم شكره على جميع إنعامه. ولما بين في الآية المتقدمة أنه يجب على جميع العباد أن لا يخافوا إلا اللّه تعالى بين في هذه الآية أن جميع النعم منه لا يشكر عليها إلا إياه، لأنه هو المتفضل بها على عباده فيجب عليهم شكره عليها ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ أي الشدة والأمراض والأسقام فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ يعني إليه تستغيثون، وتصيحون وتضجون بالدعاء ليكشف عنكم ما نزل بكم من الضرر والشدة وأصل الجؤار هو رفع الصوت الشديد، ومنه جؤار البقر.
والمعنى أن النعم لما كانت كلها ابتداء منه فإن حصل شدة، وضر في بعض الأوقات فلا يلجأ إلا إليه ولا يدعي إلا إياه ليكشفها، فإنه هو القادر على كشفها وهو قوله تعالى ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ يعني ثم إذا أزال الشدة، والبلاء عنكم إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ يعني طائفة وجماعة منكم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ يعني أنهم يضيفون كشف الضر إلى العوائد، والأسباب ولا يضيفونه إلى اللّه عز وجل فهذا من جملة شركهم الذي كانوا عليه، وإنما قسمهم فريقين لأن فريق المؤمنين لا يرون كشف الضر إلا من اللّه تعالى ثم قال تعالى لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ قيل : إن هذه اللام لام كي ويكون المعنى على هذا أنهم إنما أشركوا باللّه ليجحدوا نعمه عليهم في كشف الضر عنهم وقيل : إنها لام العاقبة والمعنى عاقبة أمرهم، هو كفرهم بما