لباب التأويل، ج ٤، ص : ١٠٧
ومعنى جعلوا هنا حكموا وأثبتوا إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ أي لجحود نعم اللّه تعالى عليه أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ هذا استفهام إنكار وتوبيخ يقول اتخذ ربكم لنفسه البنات وَأَصْفاكُمْ أي أخلصكم بِالْبَنِينَ وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا أي بالجنس الذي جعله للرحمن شبها لأن الولد لا يكون إلا من جنس الوالد والمعنى أنهم نسبوا إليه البنات ومن حالهم أن أحدهم إذا قيل له وقد ولد لك بنت اغتم وتربد وجهه غيظا وأسفا وهو قوله تعالى : ظَلَّ وَجْهُهُ أي صار وجهه مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ أي من الحزن والغيظ قيل إن بعض العرب ولد له أنثى فهجر بيت امرأته التي ولدت فيه الأنثى فقالت المرأة :
ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا ليس لنا من أمرنا ما شينا
وإنما نأخذ ما أعطينا حكمة ربي ذي اقتدار فينا
قوله عز وجل : أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا يعني أو من يتربى فِي الْحِلْيَةِ يعني في الزينة والنعمة والمعنى أو يجعل للرحمن من الولد من هذه الصفة المذمومة صفته ولولا نقصانها لما احتاجت إلى تزيين نفسها بالحلية ثم بين نقصان حالها بوجه آخر وهو قوله وَهُوَ فِي الْخِصامِ أي المخاصمة غَيْرُ مُبِينٍ للحجة وذلك لضعف حالها وقلة عقلها قال قتادة قلما تكلمت امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١٩ الى ٢٣]
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣)
وَجَعَلُوا أي وحكموا وأثبتوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ وقرئ عند الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ أي حضروا خلقهم حين خلقوا وهذا استفهام إنكار أي لم يشهدوا ذلك سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ أي على الملائكة أنهم بنات اللّه وَيُسْئَلُونَ أي عنها، قيل لما قالوا هذا القول سألهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : وما يدريكم أنهم بنات اللّه، قالوا : سمعنا من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا، فقال اللّه تعالى : سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ ويسألون عنها في الآخرة وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ يعني الملائكة وقيل الأصنام وإنما لم يعجل عقوبتنا على عبادتنا إياها لرضاه منا بذلك قال اللّه تعالى ردا عليهم.
ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي فيما يقولون إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يعني ما هم إلا كاذبون في قولهم إن اللّه رضي منا بعبادتها، وقيل يكذبون في قولهم إن الملائكة إناث وإنهم بنات اللّه أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل القرآن بأن يعبدوا غير اللّه فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ أي يأخذون بما فيه بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ أي على دين وملة وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ يعني أنهم جعلوا أنفسهم مهتدين باتباع آبائهم وتقليدهم من غير حجة ثم أخبر أن غيرهم قد قال هذه المقالة بقوله تعالى : وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أغنياؤها ورؤساؤها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ أي بهم.