لباب التأويل، ج ٤، ص : ١٣٤
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ الخطاب لأهل مكة يعني مكناهم فيما لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان وطول الأعمار وكثرة الأموال وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً يعني إنا أعطيناهم هذه الحواس ليستعملوها فيما ينفعهم في أمر الدين فما استعملوها إلا في طلب الدنيا ولذاتها فلا جرم فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ يعني أنه لما أنزل بهم العذاب ما أغنى ذلك عنهم شيئا إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعني ونزل بهم العذاب الذي كانوا يطلبونه على سبيل الاستهزاء وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى الخطاب لأهل مكة يعني أهلكنا قرى ديار ثمود وهي الحجر وسدوم وهي قرى قوم لوط بالشام وقرى قوم عاد باليمن يخوف أهل مكة بذلك وَصَرَّفْنَا الْآياتِ يعني وبينا لهم الحجج والدلائل الدالة على التوحيد لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني عن كفرهم فلم يرجعوا فأهلكناهم بسبب كفرهم وتماديهم في الكفر فَلَوْ لا يعني فهلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً يعني أنهم اتخذوا الأغنام آلهة يتقربون بعبادتها إلى اللّه تعالى والقربان كل ما يتقرب به إلى اللّه تعالى : بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ يعني بل ضلت الآلهة عنهم فلم تنفعهم عند نزول العذاب بهم وَذلِكَ إِفْكُهُمْ يعني كذبهم الذي كانوا يقولون إنها تقربهم إلى اللّه تعالى وتشفع لهم عنده وَما كانُوا يَفْتَرُونَ يعني يكذبون بقولهم إنها آلهة وإنها تشفع لهم.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢٩]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩)
قوله عز وجل : وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ الآية.
(ذكر القصة في ذلك) قال المفسرون : لما مات أبو طالب عم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وكان في حياته يحوطه وينصره ويمنعه ممن يؤذيه، فلما مات وجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وحشة من قومه، فخرج إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة له والمنعة من قومه فروى محمد بن إسحاق عن زيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال : لما انتهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف، وهم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة : عبد ياليل، ومسعود، وحبيب بنو عمير. وعندهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم، فدعاهم إلى اللّه وكلمهم بما جاء له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه فقال له أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة إن كان اللّه أرسلك. وقال الآخر : ما وجد اللّه أحدا يرسله غيرك وقال الثالث : لا أكلمك كلمة أبدا لئن كنت رسولا من اللّه كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام وإن كنت تكذب على اللّه فما ينبغي لي أن أكلمك فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :«إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي» وكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يبلغ قومه فيزيد ذلك في تجرئهم عليه فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم فجعلوا يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع إليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة وهما فيه، فرجع عنه سفهاء ثقيف ومن كان تبعه منهم، فعمد إلى ظل حبلة من عنب فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف وقد لقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تلك المرأة التي من بني جمح فقال لها : ماذا لقينا من أحمائك؟ فلما اطمأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال :
«اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، فأنت رؤوف وأنت أرحم الراحمين، وأنت