لباب التأويل، ج ٤، ص : ١٣٨
كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل. وهذا القول هو اختيار الإمام فخر الدين الرازي. قال : لأن لفظة من في قوله مِنَ الرُّسُلِ للتبين لا للتبعيض كما تقول : ثوب من خز كأنه قيل له اصبر كما صبر الرسل من قبلك على أذى قومهم وصفهم بالعزم لقوة صبرهم وثباتهم وقال بعضهم : الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يونس لعجلة كانت فيه ألا ترى أنه قيل للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم : وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ وقال قوم : أولي العزم هم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر نبيا لقوله بعد ذكرهم أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ وقال الكلبي : هم الذين أمروا بالجهاد وأظهروا المكاشرة لأعداء اللّه. وقيل : هم ستة : نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وموسى، وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء. وقال مقاتل : هم ستة : نوح صبر على أذى قومه، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر على الذبح، في قول، ويعقوب صبر على فقد ولده وذهاب بصره، ويوسف صبر على الجب والسجن، وأيوب صبر على الضر.
وقال ابن عباس وقتادة : هم : نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، أصحاب الشرائع فهم مع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وعليهم أجمعين وخمسة قد ذكرهم اللّه على التخصيص والتعيين في قوله وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وفي قوله : شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً الآية روى البغوي بسنده عن عائشة قالت :«قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن اللّه لم يرض من أولي العزم إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ولم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم فقال : فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وإني واللّه لا بد لي من طاعته واللّه لأصبرن كما صبروا ولأجهدن كما جهدوا ولا قوة إلا باللّه».
قوله تعالى : وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ يعني اصبر على أذاهم لا تستعجل بنزول العذاب عليهم فإنه نازل بهم لا محالة كأنه صلّى اللّه عليه وسلّم ضجر بعض الضجر فأحب أن ينزل العذاب بمن أبى منهم فأمره اللّه تعالى بالصبر وترك الاستعجال ثم أخبر بقرب العذاب فقال تعالى : كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ يعني من العذاب في الآخرة لَمْ يَلْبَثُوا يعني في الدنيا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ يعني أنهم إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه قدر ساعة من نهار لأن ما مضى وإن كان طويلا فهو يسير إلى ما يدوم عليهم من العذاب وهو أبد الآبدين بلا انقطاع ولا فناء وتم الكلام عند قوله ساعة من نهار ثم ابتدأ فقال تعالى : بَلاغٌ أي هذا القرآن وما فيه من البينات والهدى بلاغ من اللّه إليكم. والبلاغ : بمعنى التبليغ فَهَلْ يُهْلَكُ يعني : بالعذاب إذا نزل إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ يعني الخارجين عن الإيمان باللّه وطاعته قال الزجاج : تأويله لا يهلك من رحمة اللّه وفضله إلا القوم الفاسقون ولهذا قال قوم ما في الرجاء لرحمة اللّه آية أقوى من هذه الآية واللّه أعلم.