لباب التأويل، ج ٤، ص : ١٤٧
عن سماع القرآن وفارقتم أحكامه أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ يعني تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الفساد في الأرض بالمعصية والبغي وسفك الدم وترجعوا إلى الفرقة بعد ما جمعكم اللّه بالإسلام وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ قال قتادة كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب اللّه ألم يسفكوا الدم الحرام وقطعوا الأرحام وعصوا الرّحمن؟
(ق) عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال «إن الرّحمن شجنة من الرّحمن فقال اللّه تعالى من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته». وفي رواية قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «إن اللّه خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرّحم فأخذت بحقو الرّحمن فقال : مه فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال : نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى قال فذلك لك ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اقرءوا إن شئتم : فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها الشجنة : القرابة المشتبكة كاشتباك العروق. والحقو. مشد الإزار من الإنسان وقد يطلق على الإزار، ولما جعل الرحم شجنة من الرّحمن، استعار لها الاستمساك به والأخذ كما يستمسك القريب من قريبه والنسيب من نسيبه. ومعنى صلة الرحم : مبرة الأقارب والإحسان إليهم وقطع الرحم ضد صلتها والعائذ اللائذ المستجير قال القاضي عياض : الرحم التي توصل وتقطع وتبر إنما هي معنى من المعاني وليست بجسم وإنما هي قرابة ونسب يجمعه رحم والده فيتصل بعضه ببعض فسمي ذلك الاتصال رحما. والمعاني لا يتأتى منها القيام ولا الكلام فيكون ذكر قيامها هنا وتعلقها ضرب مثل وحسن استعارة على عادة العرب في استعمال ذلك والمراد تعظيم شأنها وفضيلة وأصلها وعظيم إثم قاطعها ولهذا سمي العقوق قطعا كأنه قطع ذلك السبب المتصل قال :
ويجوز أن يكون المراد قيام ملك من الملائكة تعلق بالعرش وتكلم على لسانها بهذا بأمر اللّه عز وجل هذا كلام القاضي عياض في معنى هذا الحديث واللّه أعلم وقيل في الآية في قوله إِنْ تَوَلَّيْتُمْ هو من الولاية يعني فَهَلْ عَسَيْتُمْ إن توليتم أمر الناس أن تفسدوا في الأرض، يعني بالظلم، وتقطعوا أرحامكم، ومعنى الاستفهام في قوله : فهل عسيتم للتقرير المذكور والمعنى هل يتوقع منكم الإفساد.
فإن قلت : عسى طمع وترج وتوقع وذلك على اللّه محال لأنه تعالى عالم بكل شيء فما معناه.
قلت : قال بعضهم معناه : يفعل بكم فعل المترجي المبتلي. وقال بعضهم معناه كل من ينظر إليهم يتوقع منهم ذلك. وقال الزمخشري : معناه أنه لما عهد منكم إحقاء بأن يقول لكم كل من ذاقكم وعرف تمريضكم ورخاوة عقدكم في الإيمان يا هؤلاء ما ترون هل يتوقع منكم إن توليتم أمور الناس وتأمرتم عليهم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم تناحرا على الملك وتهالكا على الدنيا.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٢٣ الى ٢٦]
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦)
أُولئِكَ إشارة إلى من إذا تولى أفسد في الأرض وقطع الأرحام الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ يعني أبعدهم من رحمته وطردهم عن جنته فَأَصَمَّهُمْ يعني عن سماع الحق وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ يعني عن طريق الهدى وذلك أنهم لما سمعوا القرآن فلم يفهموه ولم يؤمنوا به وأبصروا طريق الحق فلم يسلكوه ولم يتبعوه، فكانوا بمنزلة الصم العمى، وإن كان لهم أسماع وأبصار في الظاهر أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يعني يتكفرون فيه وفي مواعظه وزواجره وأصل التدبر التفكر في عاقبة الشيء وما يؤول إليه أمره. وتدبر القرآن لا يكون إلا مع حضور القلب وجمع الهم وقت تلاوته ويشترط فيه تقليل الغذاء من الحلال الصرف وخلوص النية أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها