لباب التأويل، ج ٤، ص : ١٥٤
المضاف إيجازا واختصارا وقيل إنما يحتاج إلى هذه التقديرات إذا كانت العزة من الغلبة. والعزيز : الغالب.
أما إذا قلنا إن العزيز هو النفيس القليل أو العديم النظير، فلا يحتاج إلى هذه التقديرات، لأن النصر الذي هو من اللّه تعالى عزيز في نفسه لكونه من اللّه تعالى فصحّ وصف كونه نصرا عزيزا.
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٤ الى ٦]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦)
قوله تعالى : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ يعني الطمأنينة والوقار في قلوبهم لئلا تنزعج نفوسهم. قال ابن عباس : كل سكينة في القرآن طمأنينة إلا التي في سورة البقرة وقد تقدم تفسيرها في موضعها.
ولما قال اللّه تعالى : وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً، بيّن وجه هذا النصر كيف هو، وذلك أنه تعالى جعل السكينة التي هي الطمأنينة والثبات في قلوب المؤمنين ويلزم من ذلك ثبات الأقدام عند اللقاء في الحروب وغيرها فكان ذلك من أسباب النصر الذي وعد اللّه تعالى نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم قال تعالى : لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وذلك أنه تعالى جعل السكينة والطمأنينة في قلوب المؤمنين سببا لزيادة الإيمان في قلوبهم، وذلك أنه كلما ورد عليهم أمر أو نهي، آمنوا به وعملوا بمقتضاه، فكان ذلك زيادة في إيمانهم. وقال ابن عباس : بعث اللّه عز وجل رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بشهادة أن لا إله إلا اللّه فلما آمنوا به وصدقوه زادهم الصلاة ثم الزكاة ثم الصوم ثم الحج ثم الجهاد حتى أكمل دينهم، فكلما أمروا بشيء وصدقوه، ازدادوا تصديقا إلى تصديقهم، وقال الضحاك : يقينا مع يقينهم. وقال الكلبي : هذا في أمر الحديبية حين صدق اللّه رسوله الرؤيا بالحق. وقيل : لما آمنوا بالأصول وهو التوحيد وتصديق الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فيما أخبر به عن اللّه عز وجل وآمنوا بالبعث بعد الموت والجنة والنار وآمنوا بالفروع وهي جميع التكاليف البدنية والمالية كان ذلك زيادة في إيمانهم وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لما قال اللّه عز وجل :
وينصرك اللّه نصرا عزيزا، وكان المؤمنون في قلة من العدد والعدد، فكأن قائلا قال : كيف ينصره؟ فأخبره اللّه عز وجل أن له جنود السموات والأرض وهو قادر على نصر رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ببعض جنوده بل هو قادر على أن يهلك عدوه بصيحة ورجفة وصاعقة ونحو ذلك فلم يفعل بل أنزل سكينة في قلوبكم أيها المؤمنون ليكون نصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وإهلاك أعدائه على أيديكم فيكون لكم الثواب ولهم العقاب وفي جنود السموات والأرض وجوه : الأول : إنهم ملائكة السموات والأرض. الثاني : أن جنود السموات الملائكة وجنود الأرض جميع الحيوانات الثالث أن جنود السموات مثل الصاعقة والصيحة والحجارة وجنود الأرض مثل الزلال والخسف والغرق ونحو ذلك وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً يعني بجميع جنوده الذين في السموات والأرض حَكِيماً يعني في تدبيره وقيل : عليما بما في قلوبكم أيها المؤمنون حكيما حيث جعل النصر لكم على أعدائكم.
قوله عز وجل : لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يستدعي سابقا تقديره هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليدخلهم جنات. وقيل : تقديره أن من علمه وحكمته إن سكّن قلوب المؤمنين بصلح الحديبية ووعدهم الفتح والنصر ليشكروه على نعمه، فيثيبهم ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وقد تقدم ما روي عن أنس أنه لما نزل قوله تعالى : إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ قال الصحابة : هنيئا مريئا قد بين اللّه تعالى ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟ فأنزل اللّه عز وجل الآية التي بعدها : لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ فإن