لباب التأويل، ج ٤، ص : ١٥٧
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١١ الى ١٥]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥)
قوله تعالى : سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ قال ابن عباس ومجاهد يعني أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع والنخع وأسلم وذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا، استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت فأحرم بالعمرة وساق الهدى ليعلم الناس أنه لا يريد حربا، فتثاقل عنه كثير من الأعراب، وتخلفوا، واعتلّوا بالشغل، فأنزل اللّه تعالى فيهم سيقول لك يا محمد المخلفون من الأعراب الذين خلفهم اللّه عز وجل عن صحبتك، إذا رجعت إليهم من عمرتك هذه وعاتبتهم على التخلف عنك شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا يعني النساء والذراري.
يعني : لم يكن لنا من يخلفنا فيهم : فلذا تخلفنا عنك فَاسْتَغْفِرْ لَنا أي إنا مع عذرنا معترفون بالإساءة فاستغفر لنا بسبب تخلفنا عنك فأكذبهم اللّه تعالى فقال اللّه تعالى : يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ يعني أنهم في طلب الاستغفار كاذبون لأنهم لا يبالون استغفر لهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أم لا قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا يعني سوءا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يدفع عنهم الضر أو يجعل لهم النفع بالسلامة في أنفسهم وأموالهم فأخبرهم اللّه عز وجل أنه إن أراد شيئا من ذلك لم يقدر أحد على دفعه بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً يعني من إظهاركم الاعتذار وطلب الاستغفار وإخفائكم النفاق بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً يعني ظننتم أن العدو يستأصلهم فلا يرجعون إلى أهليهم وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ يعني زيّن الشيطان ذلك الظن عندكم حتى قطعتم به، حتى صار الظن يقينا عندكم، وذلك أن الشيطان قد يوسوس في قلب الإنسان بالشيء ويزينه له حتى يقطع به وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ يعني وظننتم أن اللّه يخلف وعده وذلك أنهم قالوا : إن محمدا وأصحابه أكلة رأس، يريدون بذلك قتلهم فلا يرجعون فأين تذهبون معهم انظروا ما يكون من أمرهم وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً يعني وصرتم بسبب ذلك الظن الفاسد قوما بائرين هالكين وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً.
لما بين اللّه تعالى حال المخلفين عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وبين حال ظنهم الفاسد وإن ذلك يفضي بصاحبه إلى الكفر حرضهم على الإيمان والتوبة من ذلك الظن الفاسد فقال تعالى : وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وظن أن اللّه يخلف وعده فإنه كافر وإنا أعتدنا للكافرين سعيرا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ لما ذكر اللّه تعالى حال المؤمنين المبايعين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وحال الظانين ظن السوء أخبر أن له ملك السموات والأرض ومن كان كذلك فهو يغفر لمن يشاء بمشيئته ويعذب من يشاء ولكن غفرانه ورحمته أعم وأشمل وأتم وأكمل وإليه الإشارة بقوله تعالى :
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً قوله عز وجل : سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ يعني الذين تخلفوا عن الحديبية إِذَا انْطَلَقْتُمْ يعني إذا سرتم وذهبتم أيها المؤمنون إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها يعني غنائم خيبر وذلك أن المؤمنين لما انصرفوا من الحديبية على صلح من غير قتال ولم يصيبوا من الغنائم شيئا وعدهم اللّه عز وجل فتح خيبر وجعل غنائمها لمن شهد الحديبية خاصة عوضا عن غنائم أهل مكة حيث انصرفوا عنهم ولم يصيبوا منهم شيئا ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يعني