لباب التأويل، ج ٤، ص : ١٥٩
النفاق والمخالفة وهذا القيد لا بد منه لأن من أسلم وحسن إسلامه وجب عليه الجهاد ولا يجوز منعه من الخروج إلى الجهاد مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم. الوجه الثاني : في الجواب عن الوجه الأول أن المراد من قوله لن تتبعونا ولن تخرجوا معي أبدا يعني في غزوة خيبر لأنها كانت مخصوصة بمن شهد بيعة الرضوان بالحديبية دون غيرهم. ثم نقول : إن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لو لم يدعهم إلى الجهاد معه أو منعهم من الخروج إلى الجهاد معهما لامتنع أبو بكر وعمر من الإذن لهم في الخروج إلى الجهاد معهما كما امتنعا من أخذ الزكاة من ثعلبة لامتناع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من أخذها وأما الجواب عن الوجه الثاني وهو أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لم يبق له حرب مع قوم أولي بأس شديد فغير مسلم لأن الحرب كانت باقية مع قريش وغيرهم من العرب وهم أولو بأس شديد فثبت بهذا البيان أن الداعي للمخلفين هو النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأما قول من قال إن أبا بكر دعاهم إلى قتال بني حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب وإن عمر دعاهم إلى قتال فارس والروم فظاهر في الدلالة وفيه دليل على صحة خلافتهما لأن اللّه تعالى وعد على طاعتهما الجنة وعلى مخالفتهما النار.
وقوله تعالى : تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فيه إشارة إلى وقوع أحد الأمرين إما الإسلام أو القتل فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً يعني الجنة وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يعني تعرضوا عن الجهاد كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يعني عام الحديبية يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً يعني النار ولما نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة والأعذار كيف حالنا يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأنزل اللّه عز وجل لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ يعني في التخلف عن الجهاد وهذه أعذر ماهرة في جواز ترك الجهاد، لأن أصحابها لا يقدرون على الكر والفر، لأن الأعمى لا يمكنه الإقدام على العدو والطلب، ولا يمكنه الاحتراز منه والهرب، وكذلك الأعرج، والمريض. وفي معنى الأعرج : الزمن المقعد والأقطع. وفي معنى المريض : صاحب السعال الشديد والطحال الكبير. والذين لا يقدرون على الكر والفر : فهذه أعذار مانعة من الجهاد ظاهرة ومن وراء ذلك أعذار أخر دون ما ذكر وهي : الفقر الذي لا يمكن صاحبه أن يستصحب معه ما يحتاج إليه من مصالح الجهاد والاشغال التي تعوق عن الجهاد كتمريض المريض الذي ليس له من قوم مقامه عليه ونحو ذلك وإنما قدم الأعمى على الأعرج، لأن عذر الأعمى مستمر لا يمكن الانتفاع به في حرس ولا غيره بخلاف الأعرج لأنه يمكن الانتفاع به في الحراسة ونحوها وقدم الأعرج على المريض لأن عذره أشد من عذر المريض لإمكان زوال المرض عن قريب وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني في أمر الجهاد وغيره يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يعني يعرض عن الساعة ويستمر على الكفر والنفاق يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً يعني في الآخرة.
قوله عز وجل : لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ يعني بالحديبية على أن يناجزوا قريشا ولا يفروا تَحْتَ الشَّجَرَةِ وكانت هذه الشجرة سمرة (ق) عن طارق بن عبد الرّحمن قال انطلقت حاجا، فمررت بقوم يصلون، فقلت : ما هذا المسجد؟ قالوا : هذه الشجرة حيث بايع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بيعة الرضوان فأتيت ابن المسيب فأخبرته فقال سعيد : كان أبي ممن بايع تحت الشجرة قال : فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فعميت علينا فلم نقدر عليها. قال سعيد : فأصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يعلموها وعلمتموها فأنتم أعلم فضحك. وفي رواية، عن سعيد بن المسيب عن أبيه، قال : لقد رأيت الشجرة ثم أتيتها بعد عام فلم أعرفها، وروي أن عمر مر بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة، فقال : أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول هاهنا وبغضهم يقول هاهنا فلما كثر اختلافهم قال : سيروا. ذهبت الشجرة. (خ) عن ابن عمر قال رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها وكانت رحمة من اللّه تعالى (م) عن أبي الزبير، أنه سمع جابرا يسأل : كم كانوا يوم الحديبية؟ قال : كنا أربع عشرة مائة فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة فبايعناه جميعا غير جد بن قيس الأنصاري اختفى تحت بطن بعيره. زاد في رواية قال : بايعناه على أن لا نفر. ولم نبايعه على الموت.
وأخرجه الترمذي عن جابر في قوله تعالى : لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ.


الصفحة التالية
Icon