لباب التأويل، ج ٤، ص : ١٩٩
بهذه الأشياء لما فيها من عظيم قدرته وجواب القسم قوله تعالى : إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ يعني إنه لحق وكائن ونازل بالمشركين في الآخرة ما لَهُ مِنْ دافِعٍ أي مانع.
قال جبير بن مطعم : قدمت المدينة لأكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في أسارى بدر فدفعت له وهو يصلي بأصحابه المغرب وصوته يخرج من المسجد فسمعته يقرأ والطور إلى قوله إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع فكأنما صدع قلبي حين سمعت ولم يكن أسلم يومئذ فأسلمت خوفا من نزول العذاب وما كنت أظن أني أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب ثم بين أنه متى يقع فقال تعالى : يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً أي تدور كدوران الرحى وتتكفأ بأهلها تكفؤ السفينة وقيل : تتحرك وتختلف أجزاؤها بعضها من بعض وتضطرب وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً أي تزول عن أماكنها وتصير هباء منثورا والحكمة في مور السماء وسير الجبال الإنذار والأعلام بأن لا رجوع ولا عود إلى الدنيا وذلك لأن الأرض والسماء وما بينهما من الجبال والبحار وغير ذلك إنما خلقت لعمارة الدنيا وانتفاع بني آدم بذلك فلما لم يبق لهم عود إليها أزالها اللّه تعالى وذلك لخراب الدنيا وعمارة الآخرة.
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ١١ الى ٢١]
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥)
اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١)
فَوَيْلٌ أي شدة عذاب يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي يوم القيامة الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ أي يخوضون في الباطل يَلْعَبُونَ أي غافلون لأهون عما يراد بهم يَوْمَ يُدَعُّونَ أي يدفعون إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا يعني دفعا بعنف وجفوة، وذلك أن خزنة جهنم يغلّون أيدي الكفار إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ويدفعون بها دفعا إلى النار على وجوههم وزجّا في أقفيتهم حتى يردوا إلى النار، فإذا دنوا منها، قال لهم خزنتها : هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي في الدنيا أَفَسِحْرٌ هذا ذلك أنهم كانوا ينسبون محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم إلى السحر وأنه يغطي على الأبصار فوبخوا بذلك وقيل لهم : أفسحر هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْها أي قاسوا شدتها فَاصْبِرُوا أي على العذاب أَوْ لا تَصْبِرُوا أي عليه سَواءٌ عَلَيْكُمْ أي الصبر والجزع إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي من الكفر والتكذيب في الدنيا.
قوله تعالى : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فاكِهِينَ أي معجبين بذلك ناعمين بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي من الخير والكرامة وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ كُلُوا أي يقال لهم كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً أي مأمون العاقبة من التخمة والسقم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في الدنيا من الإيمان والطاعة مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ أي موضوعة بعضها إلى بعض وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ يعني ألحقنا أولادهم الصغار والكبار بإيمانهم فالكبار بإيمانهم بأنفسهم والصغار بإيمان آبائهم فإن الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعا لأحد أبويه أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ يعني المؤمنين في الجنة بدرجات آبائهم وإن لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم تكرمة لآبائهم لتقر بذلك أعينهم هذه رواية عن ابن عباس. وفي رواية أخرى عنه، أن معنى الآية والذين آمنوا واتبعناهم ذرياتهم يعني البالغين بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان بإيمان آبائهم أخبر اللّه تعالى أنه


الصفحة التالية
Icon