لباب التأويل، ج ٤، ص : ٢٢٣
ثم أخذ ظلما حتى يذبح بين الركن والمقام لكبه اللّه على وجهه في سقر ثم قيل له ذق مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر. قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه اللّه اعلم أن مذهب أهل الحق إثبات القدر ومعناه أن اللّه تعالى قدر الأشياء في القدم وعلم سبحانه وتعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى وعلى صفات مخصوصة فهي تقع على حسن ما قدرها اللّه تعالى وأنكرت القدرية هذا وزعمت أنه سبحانه وتعالى لم يقدرها ولم يتقدم علمه بها وإنها مستأنفة العلم أي إنما يعلمها سبحانه وتعالى بعد وقوعها وكذبوا على اللّه سبحانه وتعالى عن أقوالهم الباطلة علوا كبيرا. وسميت هذه الفرقة قدرية، لإنكارهم القدر. قال أصحاب المقالات من المتكلمين : وقد انقرضت القدرية القائلون بهذا القول الشنيع الباطل ولم يبق أحد من أهل القبلة عليه. وصارت القدرية في الأزمان المتأخرة تعتقد إثبات القدر ولكن تقول الخير من اللّه والشر من غيره تعالى اللّه عن قولهم علوا كبيرا.
وحكى أبو محمد بن قتيبة في كتابه غريب الحديث، وأبو المعالي إمام الحرمين في كتابه الإرشاد في أصول الدين، أن بعض القدرية قالوا : لسنا بقدرية بل أنتم القدرية لاعتقادكم إثبات القدر. قال ابن قتيبة وإمام الحرمين : هذا تمويه من هؤلاء الجهلة ومباهته وتواقح، فإن أهل الحق يفرضون أمورهم إلى اللّه تعالى.
ويضيفون القدر والأفعال إلى اللّه تعالى وهؤلاء الجهلة يضيفونه إلى أنفسهم ومدعي الشيء لنفسه ومضيفه إليها أولى بأن ينسب إليه ممن يعتقده لغيره وينفيه عن نفسه.
قال إمام الحرمين : وقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «القدرية مجوس هذه الأمة» شبههم بهم لتقسيمهم الخير والشر في حكم الإرادة كما قسمت المجوس فصرفت الخير إلى يزدان والشر إلى أهرمن. ولا خفاء باختصاص هذا الحديث بالقدرية. وحديث : القدرية مجوس هذه الأمة، رواه أبو حازم عن ابن عمر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأخرجه أبو داود في سننه والحاكم أبو عبد اللّه في المستدرك على الصحيحين. وقال : صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم عن ابن عمر وقال الخطابي : إنما جعلهم صلّى اللّه عليه وسلّم مجوسا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس لقولهم بالأصلين : النور والظلمة يزعمون أن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة فصاروا ثنوية وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى اللّه والشر إلى غيره واللّه سبحانه وتعالى خالق كل شيء الخير والشر جميعا لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته فهما مضافان إليه سبحانه وتعالى خلقا وإيجادا وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلا واكتسابا. قال الخطابي : وقد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار اللّه تعالى العبد وقهره على ما قدره وقضاه وليس الأمر كما يتوهمونه وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم اللّه تعالى بما يكون من اكساب العباد وصدورها عن تقدير منه وخلق لها خيرها وشرها. قال : والقدر اسم لما صدر مقدرا عن فعل القادر. ويقال :
قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل بمعنى واحد. والقضاء في هذا معناه الخلق كقوله تعالى : فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ أي خلقهن. وقد تظاهرت الأدلة القطعية من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل العقد والحل من السلف والخلف على إثبات قدر اللّه سبحانه وتعالى وقد قرر ذلك أئمة المتكلمين أحسن تقرير بدلائله القطعية السمعية والعقلية واللّه أعلم.
وأما معاني الأحاديث المتقدمة، فقوله : جاء مشركو قريش إلى قوله إنا كل شيء خلقناه بقدر المراد بالقدر هنا القدر المعروف وهو ما قدره اللّه وقضاه وسبق به علمه وإرادته فكل ذلك مقدر في الأزل معلوم للّه تعالى مراد له، وكذلك قوله : كتب اللّه مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء المراد منه تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره لا أصل القدر فإن ذلك أزلي لا أول له وقوله وعرشه على الماء أي قبل أن يخلق السموات والأرض، وقوله : كل شيء بقدر حتى العجز والكيس. أو قال : الكيس