لباب التأويل، ج ٤، ص : ٢٧٧
ولما وصف القرآن بالعظم أتبعه بوصف عظمته فقال تعالى : هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يعني أنه تعالى أعلم بما غاب عن العباد مما لم يعاينوه ولم يعلموه وعلم ما شاهدوه وما علموه وقيل استوى في علمه تعالى السر والعلانية والموجود والمعدوم وقيل علم حال الدنيا والآخرة هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ اسمان مشتقان اشتقاقهما من الرحمة وهما صفتان للّه تعالى ومعناهما ذو الرحمة ورحمة اللّه إرادته الخير والنعمة والإحسان إلى خلقه وقيل إن الرّحمن أشد مبالغة من الرّحيم ولهذا قيل هو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة لأن إحسانه تعالى في الدنيا يعم المؤمن والكافر وفي الآخرة يختص إحسانه وإنعامه بالمؤمنين هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ أي المتصرف بالأمر والنهي في جميع خلقه المالك لهم فهم تحت ملكه وقهره وإرادته الْقُدُّوسُ أي الطاهر عن كل عيب المنزه عما لا يليق به وقيل هو الذي كثرت بركته السَّلامُ أي الذي سلم من النقائص وكل آفة تلحق الخلق.
فإن قلت على هذا التفسير لا يبقى بين القدوس والسلام فرق فيكون كالتكرار وذلك لا يليق بفصاحة القرآن.
قلت الفرق بينهما أن القدوس إشارة إلى براءته عن جميع العيوب والنقائص في الماضي والحاضر والسلام إشارة إلى أنه لا يطرأ عليه شيء من العيوب والنقائص في المستقبل فإن الذي يطرأ عليه شيء من ذلك تزول سلامته ولا يبقى سليما، وقيل السلام أي سلم خلقه ممن ظلمه، الْمُؤْمِنُ قال ابن عباس هو الذي أمن الناس من ظلمه وأمن من آمن به من عذابه وقيل هو المصدق لرسله بإظهار المعجزات لهم والمصدق للمؤمنين بما وعدهم من الثواب وبما أوعد الكافرين من العذاب الْمُهَيْمِنُ قال ابن عباس أي الشهيد على عباده بأعمالهم الذي لا يغيب عنه شيء وقيل هو القائم على خلقه برزقه وأنشد في معناه :
ألا إن خير الناس بعد نبيه مهيمنه التاليه في العرب والنكر
أي القائم على الناس بعده وقيل هو الرقيب الحافظ، وقيل هو المصدق وقيل هو القاضي وقيل هو بمعنى الأمين والمؤتمن وقيل بمعنى العلي ومنه قول العباس يمدح النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في أبيات منها :
حتى احتوى بينك المهيمن من خندف عليا زانها النطق
وقيل : المهيمن اسم من أسماء اللّه تعالى هو أعلم بتأويله وأنشدوا في معناه :
جل المهيمن عن صفات عبيده ولقد تعالى عن عقول أولي النهى
راموا بزعمهم صفات مليكهم والوصف يعجز عن مليك لا يرى
الْعَزِيزُ أي الذي لا يوجد له نظير وقيل الغالب القاهر الْجَبَّارُ قال ابن عباس الجبار هو العظيم وجبروت اللّه عظمته فعلى هذا هو صفة ذات وقيل هو من الجبر يعني الذي يغني الفقير ويجبر الكسير فعلى هذا هو صفة فعل وهو سبحانه وتعالى كذلك يجبر كل كسير ويغني كل فقير وقيل هو الذي يجبر الخلق ويقهرهم على ما أراد : وسئل بعضهم عن معنى الجبار فقال هو القهار الذي إذا أراد أمرا فعله لا يحجزه عنه حاجز وقيل الجبار هو الذي لا ينال ولا يداني والجبار في صفة اللّه تعالى صفة مدح وفي صفة الناس صفة ذم وكذلك الْمُتَكَبِّرُ في صفة الناس صفة ذم لأن المتكبر هو الذي يظهر من نفسه الكبر وذلك نقص في حقه لأنه ليس له كبر ولا علو بل له الحقارة والذلة فإذا أظهر الكبر كان كذابا في فعله فكان مذموما في حق الناس وأما المتكبر في صفة اللّه تعالى فهو صفة مدح لأن له جميع صفات العلو والعظمة ولهذا قال في آخر الآية سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ كأنه قيل إن بعض الخلق يتكبر فيكون ذلك نقصا في حقه أما اللّه تعالى فله العلو والعظمة والعزة والكبرياء فإن أظهر ذلك