لباب التأويل، ج ٤، ص : ٣١٦
[سورة التحريم (٦٦) : الآيات ٦ الى ٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩)
قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ قال ابن عباس بالانتهاء عما نهاكم اللّه عنه والعمل بطاعته وَأَهْلِيكُمْ يعني مروهم بالخير وانهوهم عن الشر وعلموهم وأدبوهم تقوهم بذلك، ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ يعني الكبريت، لأنه أشد الأشياء حرا وأسرع إيقادا عَلَيْها مَلائِكَةٌ يعني خزنة النار وهم الزبانية غِلاظٌ أي فظاظ على أهل النار شِدادٌ يعني أقوياء يدفع الواحد منهم بالدفعة الواحدة سبعين ألفا في النار لم يخلق اللّه الرحمة فيهم لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ أي لا يخالفون اللّه فيما أمرهم به ونهاهم عنه وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ أي لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامره والانتقام من أعدائه يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ أي يقال لهم لا تعتذروا اليوم وذلك حين يعاينون النار وشدتها لأنه قد قدم إليهم الإنذار والإعذار فلا ينفعهم الاعتذار لأنه غير مقبول بعد دخول النار إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني أن أعمالكم السيئة ألزمتكم العذاب.
قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً أي ذات نصح تنصح صاحبها بترك العود إلى الذنب الذي تاب منه قال عمر بن الخطاب وأبي بن كعب ومعاذ التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع وقال الحسن هي أن يكون العبد نادما على ما مضى مجمعا على أن لا يعود إليه وقال الكلبي أن يستغفر باللسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن وقال سعيد بن المسيب معناه توبة تنصحون بها أنفسكم وقال محمد بن كعب القرظي التوبة النصوح يجمعها أربعة أشياء الاستغفار باللسان والإقلاع بالأبدان وإضمار ترك العود بالجنان ومهاجرة سيئ الإخوان.
(فصل) وقال العلماء التوبة واجبة من كل ذنب على الفور ولا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة فإن كانت المعصية بين العبد وبين اللّه تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاث شروط :
أحدها : أن يقلع عن المعصية والثاني أن يندم على فعلها، والثالث أن يعزم على أن لا يعود إليها أبدا فإذا اجتمعت هذه الشروط في التوبة كانت نصوحا وإن فقد شرط منها لم تصح توبته فإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي فشروطها أربعة هذه الثلاثة المتقدمة والرابع أن يبرأ من حق صاحبها فإن كانت المعصية مالا ونحوه رده إلى صاحبه وإن كان حد قذف أو نحوه مكنه من نفسه أو طلب عفوه وإن كانت غيبة استحله منها ويجب أن يتوب العبد من جميع الذنوب فإن تاب من بعضها صحت توبته من ذلك الذنب وبقي عليه ما لم يتب منه هذا مذهب أهل السنة، وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة (م) عن الأغر بن يسار المزني قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «يا أيها الناس توبوا إلى اللّه فإني أتوب في اليوم مائة مرة» (خ) عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول «و اللّه إني لأستغفر اللّه وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة»، (ق) عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «للّه أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة الحديث (م) عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال «إن اللّه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال «إن اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن.
وقوله تعالى : عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ هذا إطماع من اللّه تعالى لعباده في قبول التوبة وذلك تفضلا وتكرما لا وجوبا عليه وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي لا يعذبهم بدخول النار نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يعني على الصراط يَقُولُونَ رَبَّنا يعني إذا انطفأ نورا المنافقين أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ تقدم تفسيره.


الصفحة التالية
Icon