لباب التأويل، ج ٤، ص : ٣٢١
إِلَّا الرَّحْمنُ والمعنى : أن الطير مع ثقلها وضخامة جسمها لم يكن بقاؤها وثبوتها في الجو إلا بإمساك اللّه عز وجل إياها وحفظه لها إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ يعني أنه تعالى لا تخفى عليه خافية أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ استفهام إنكار أي لا جند لكم يَنْصُرُكُمْ أي يمنعكم مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ أي من عذاب اللّه قال ابن عباس أي من ينصركم مني إن أردت عذابكم إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أي من الشيطان يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ يعني من ذا الذي يرزقكم المطر إن أمسكه اللّه عنكم بَلْ لَجُّوا أي تمادوا فِي عُتُوٍّ أي نبو وتكبر وَنُفُورٍ أي تباعد عن الحق ثم ضرب مثلا للكافر والمؤمن فقال تعالى :
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أي كابا رأسه في الضلالة والجهالة أعمى القلب والعين لا يبصر يمينا ولا شمالا وهو الكافر أكب على الكفر والمعاصي في الدنيا فحشره اللّه على وجهه يوم القيامة أَهْدى أي هو أهدى، أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا أي قائما معتدلا لا يبصر الطريق عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني المؤمن يمشي يوم القيامة سويا قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ أي خلقكم وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ يعني أنه تعالى ركب فيكم هذه القوى لكنكم ضيعتموها فلم تقبلوا ما سمعتموه ولا اعتبرتم بما أبصرتموه ولا تأملتم ما عقلتموه فكأنكم ضيعتم هذه النعم فاستعملتموها في غير ما خلقت له فلهذا قال قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ وذلك لأن شكر نعم اللّه صرفها في وجه مرضاته فلما صرفتموها في غير مرضاته فكأنكم ما شكرتم رب هذه النعم الواهب لها قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ أي خلقكم وبثكم فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي يوم القيامة والمعنى أن القادر على الإبداء قادر على الإعادة وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ هذا سؤال يحتمل وجهين : أحدهما أنه سؤال عن نزول العذاب بهم والثاني أنه سؤال عن يوم القيامة فأجاب اللّه عن ذلك بقوله قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أمره بإضافة العلم إلى اللّه تعالى وتبليغ ما أوحي إليه فَلَمَّا رَأَوْهُ يعني العذاب في الآخرة على قول أكثر المفسرين، وقيل يعني العذاب ببدر زُلْفَةً أي قريبا سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي اسودت وعلتها الكآبة والمعنى قبحت وجوههم بالسواد وَقِيلَ لهم أي وقالت لهم الخزنة هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ من الدعاء أي تتمنون وتطلبون أن يعجله لكم وقيل من الدعوى أي تدعون أنه باطل.
[سورة الملك (٦٧) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠)
قُلْ يا محمد لمشركي مكة الذين يتمنون هلاكك أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أي من المؤمنين أَوْ رَحِمَنا أي فأبقانا وأخر في آجالنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي إنه واقع بهم لا محالة وقيل في معنى الآية قل أرأيتم إن أهلكني اللّه أي فعذبني ومن معي أو رحمنا أي فغفر لنا فنحن مع إيماننا خائفون أن يهلكنا بذنوبنا لأن حكمه نافذ فينا فمن يجيركم أو يمنعكم من عذاب أليم وأنتم كافرون وهذا قول ابن عباس، قُلْ أي قل لهم في إنكارك عليهم وتوبيخك لهم هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا أي نحن آمنا به وعبدناه وأنتم كفرتم به فَسَتَعْلَمُونَ أي عند معاينة العذاب مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي نحن أم أنتم وهذا تهديد لهم ثم ذكرهم ببعض نعمه عليهم على طريق الاحتجاج فقال تعالى : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ قيل يريد ماء زمزم وقيل غيرها من المياه غَوْراً أي غائرا ذاهبا في الأرض لا تناله الأيدي ولا الدلاء فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ أي ظاهر تراه العيون وتناله الأيدي والدلاء، وقال ابن عباس معين أي جار والمقصود من الآية أن يجعلهم مقرين ببعض نعمه عليهم ويريهم قبح ما هم عليه من الكفر والمعنى أخبروني إن صار ماؤكم ذاهبا في الأرض فمن يأتيكم بماء معين فلا بد أن يقولوا هو اللّه تعالى فيقال لهم حينئذ فلم تجعلون معه من لا يقدر على شيء أصلا شريكا له في العبودية فهذا محال، واللّه أعلم.


الصفحة التالية
Icon