لباب التأويل، ج ٤، ص : ٣٥٣
رَبِّي أَمَداً أي أجلا وغاية تطول مدتها والمعنى أن علم وقت العذاب غيب لا يعلمه إلا اللّه عز وجل عالِمُ الْغَيْبِ أي هو عالم ما غاب عن العباد فَلا يُظْهِرُ أي فلا يطلع عَلى غَيْبِهِ أي الغيب الذي يعلمه وانفرد به أَحَداً أي من الناس ثم استثنى فقال تعالى : إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ يعني إلا من يصطفيه لرسالته ونبوته فيظهره على ما يشاء من الغيب حتى يستدل على نبوته بما يخبر به من المغيبات فيكون ذلك معجزة له وآية دالة على نبوته. قال الزمخشري وفي هذا إبطال الكرامات لأن الذين تضاف إليهم الكرامات وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل وقد خص اللّه الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وفيه أيضا إبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط. قال الواحدي وفي هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو موت ونحو ذلك فقد كفر بما في القرآن. فأما الزمخشري فأنكر كرامات الأولياء جريا على قاعدة مذهبه في الاعتزال ووافق الواحدي وغيره من المفسرين في إبطال الكهانة والتنجيم قال الإمام فخر الدين ونسبة الآية في الصورتين واحدة فإن جعل الآية دالة على المنع من أحكام النجوم فينبغي أن يجعلها دالة على المنع من الكرامات قال : وعندي أن الآية لا دلالة فيها على شيء من ذلك والذي تدل عليه أن قوله فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ليس فيه صيغة عموم فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر اللّه تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه فنحمله على وقت وقوع القيامة، فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد فلا يبقى في الآية دلالة على أنه لا يظهر شيئا من الغيوب لأحد ثم إنه يجوز أن يطلع اللّه على شيء من المغيبات غير الرسل كالكهنة وغيرهم وذكر ما يدل على صحة قوله.
والذي ينبغي أن مذهب أهل السنة إثبات كرامات الأولياء خلافا للمعتزلة وأنه يجوز أن يلهم اللّه بعض أوليائه وقوع بعض الوقائع في المستقبل فيخبر به وهو من إطلاع اللّه إياه على ذلك. ويدل على صحة ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم ناس محدثون من غير أن يكونوا أنبياء وإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر بن الخطاب» أخرجه البخاري قال ابن وهب تفسير محدثون ملهمون.
ولمسلم عن عائشة رضي اللّه عنها عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه كان يقول «قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم»، ففي هذا إثبات كرامات الأولياء ولا يقال لو جازت الكرامة للولي لما تميزت معجزة النبي عن غيرها ولا نسد الطريق إلى معرفة الرسول من غيره فنقول الفرق بين معجزة النبي وكرامة الولي أن المعجزة أمر خارق للعادة مع عدم المعارضة مقرون بالتحدي، ولا يجوز للولي أن يدعي خرق العادة مع التحدي إذ لو ادعاه الولي لكفر من ساعته فبان الفرق بين المعجزة والكرامة وقد يظهر على يد الولي أمر خارق للعادة من غير دعواه. وهذا أيضا يدل على ثبوت نبوة النبي لأن الكرامة إنما تظهر على يد من هو معتقد للرسول متابع له فلو لم تكن نبوته حقا لما ظهر الخارق على يد متابعه. وأما الكاهن فليس بمتبع للرسول وقد انسد باب الكهانة بمبعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فمن ادعى منهم اطلاعا على غيب فقد كفر بما جاء به القرآن وكذلك حكم المنجم واللّه تعالى أعلم، وقوله تعالى : فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أي من بين يدي الرسول ومن خلفه وذكر البعض دال على جميع الجهات رَصَداً أي حفظه من الملائكة يحفظونه من الشيطان أن يسترق السمع من الملائكة ويحفظونه من الجن أن يسمعوا الوحي فيلقوه إلى الكهنة فيخبروا به قبل الرسول.
وقيل إن اللّه تعالى كان إذا بعث رسولا أتاه إبليس في صورة ملك يخبره فيبعث اللّه من بين يديه ومن خلفه رصدا من الملائكة يحرسونه ويطردون الشيطان عنه فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبروه بأنه شيطان فاحذره وإن جاء ملك قالوا له هذا رسول ربك.