لباب التأويل، ج ٤، ص : ٣٥٨
فإن قلت كيف قال تبتيلا مكان تبتلا ولم يجيء على مصدره؟
قلت جاء تبتيلا على بتل نفسك إليه تبتيلا فوقع المصدر موضع مقارنة في المعنى ويكون التقدير وبتل نفسك إليه تبتيلا فهو كقوله واللّه أنبتكم من الأرض نباتا، وقيل لأن معنى تبتل بتل نفسك فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل. وقيل الأصل في تبتل أن يقال تبتلت تبتيلا وتبتلت تبتيلا فتبتيلا محمول على معنى بتل إليه تبتيلا وقيل إنما عدل عن هذه العبارة لدقيقة لطيفة وهي أن المقصود إنما هو التبتل فأما التبتيل فهو تصرف والمشتغل بالتصرف لا يكون متبتلا إلى اللّه تعالى لأن المشتغل بغير اللّه لا يكون منقطعا إليه إلا أنه لا بد من التبتيل حتى يحصل التبتل فذكر أولا التبتل لأنه المقصود وذكر التبتيل ثانيا إشعارا بأنه لا بد منه رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يعني أن التبتل والانقطاع لا يليق إلا للّه تعالى الذي هو رب المشرق والمغرب لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا أي فوض أمرك إليه وتوكل عليه. وقيل معناه اتخذ يا محمد ربك كفيلا بما وعدك من النصر على الأعداء وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي من التكذيب لك والأذى وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا أي واعتزلهم اعتزالا حسنا لا جزع فيه وهذه الآية منسوخة بآية القتال.
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ١١ الى ١٩]
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥)
فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩)
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أي دعني ومن كذبك لا تهتم به فإني أكفيكه أُولِي النَّعْمَةِ أي أصحاب النعم والترفه نزلت في صناديد قريش المستهزئين وقيل نزلت في المطعمين ببدر وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا يعني إلى يوم بدر فلم يكن إلا يسير حتى قتلوا ببدر.
وقيل أراد بالقليل أيام الدنيا ثم وصف عذابهم فقال تعالى : إِنَّ لَدَيْنا أي عندنا في الآخرة أَنْكالًا يعني قيودا عظاما ثقالا لا تنفك أبدا وقيل أغلالا من حديد وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ أي غير سائغ في الحلق لا ينزل ولا يخرج وهو الزقوم والضريع وَعَذاباً أَلِيماً أي وجيعا يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ أي تتزلزل وتتحرك وهو يوم القيامة وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا يعني رملا سائلا وهو الذي إذا أخذت منه شيئا يتبعك ما بعده إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ يعني يا أهل مكة رَسُولًا يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم شاهِداً عَلَيْكُمْ أي بالتبليغ وإيمان من آمن منكم وكفر من كفر كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا يعني موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، قيل إنما خص فرعون وموسى بالذكر من بين سائر الأمم والرسل لأن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم آذاه أهل مكة واستخفوا به لأنه ولد فيهم كما أن فرعون ازدرى بموسى وآذاه لأنه رباه فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أي فرعون أَخْذاً وَبِيلًا أي شديدا ثقيلا يعني عاقبناه عقوبة غليظة، خوّف بذلك كفار مكة ثم خوّفهم يوم القيامة فقال تعالى : فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ أي كيف لكم بالتّقوى يوم القيامة إن كفرتم أي في الدنيا، المعنى لا سبيل لكم إلى التّقوى إذا وافيتم القيامة. وقيل معنى الآية فكيف تتقون العذاب يوم القيامة، وبأي شيء تتحصنون من عذاب ذلك اليوم، وكيف تنجون منه إن كفرتم في الدّنيا يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً يعني شيوخا شمطا من هول ذلك اليوم وشدته وذلك حين يقال لآدم عليه الصّلاة والسّلام قم، فابعث بعث النار من ذريتك. (ق) عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «يقول اللّه عز وجل يوم القيامة : يا آدم فيقول لبيك وسعديك» زاد في رواية «و الخير في يديك فينادى بصوت إن اللّه يأمرك أن تخرج من ذريتك بعث النّار قال يا رب، وما بعث النار؟ قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد


الصفحة التالية
Icon