لباب التأويل، ج ٤، ص : ٣٦٠
والتخفيف، والمعنى عفا عنكم ما لم تحيطوا بعلمه ورفع المشقة عنكم فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ فيه قولان :
أحدهما : أن المراد بهذه القراءة. القراءة في الصلاة، وذلك لأن القراءة أحد أجزاء الصّلاة، فأطلق اسم الجزء على الكل، والمعنى فصلوا ما تيسر عليكم. وقال الحسن : يعني في صلاة المغرب والعشاء، قال قيس بن أبي حازم : صليت خلف ابن عباس بالبصرة فقرأ في أول ركعة بالحمد، وأول آية من البقرة، ثم قام في الثانية، فقرأ بالحمد والآية الثانية من البقرة، ثم ركع فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال : إن اللّه تعالى يقول فاقرؤوا ما تيسر منه، وقيل نسخ ذلك التّهجد، واكتفي بما تيسر ثم نسخ ذلك أيضا بالصّلوات الخمس وذلك في حق الأمة وثبت قيام اللّيل في حقه صلّى اللّه عليه وسلّم بقوله تعالى : وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ.
القول الثاني : أن المراد بقوله فاقرؤوا ما تيسر من القرآن دراسته، وتحصيل حفظه وأن لا يعرض للنسيان، فقيل يقرأ مائة آية ونحوها، وقيل إن قراءة السورة القصيرة كافية. روى البغوي بإسناده عن أنس رضي اللّه عنه أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول «من قرأ خمسين آية في يوم أو ليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية، لم يحاججه القرآن يوم القيامة، ومن قرأ خمسمائة آية كتب له قنطار من الأجر».
وذكره الشّيخ محيي الدّين في كتابه الأذكار ولم يضعفه وقال : في رواية «من قرأ أربعين آية بدل خمسين وفي رواية عشرين» وفي رواية عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «من قرأ عشر آيات لم يكتب من الغافلين» (ق) عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما قال : قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «ألم أخبر أنك تصوم الدهر، وتقرأ القرآن كل ليلة قلت بلى يا رسول اللّه، ولم أرد بذلك إلا الخير قال فصم صوم داود وكان أعبد النّاس واقرأ القرآن في كل شهر مرة قال قلت يا نبي اللّه إني أطيق أفضل من ذلك قال فاقرأه في كل عشر قال :
قلت يا نبي اللّه إني أطيق أفضل من ذلك قال فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك» ثم ذكر اللّه حكمة النّسخ والتّخفيف. فقال تعالى : عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى يعني أن المريض يضعف عن التّهجد باللّيل فخفف اللّه عز وجل عنه لأجل ضعفه وعجزه عنه وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يعني المسافرين للتجارة يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أي يطلبون من رزق اللّه وهو الربح في التجارة وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني الغزاة والمجاهدين، وذلك لأن المجاهد والمسافر مشتغل في النهار بالأعمال الشّاقة، فلو لم ينم بالليل لتوالت عليه أسباب المشقة، فخفف اللّه عنهم لذلك. روي عن ابن مسعود : قال «أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا، فباعه بسعر يومه كان عند اللّه بمنزلة الشّهداء ثم قرأ عبد اللّه : وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل اللّه وآخرون يقاتلون في سبيل اللّه» فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ أي من القرآن وإنما أعاده للتأكيد وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يعني المفروضة وَآتُوا الزَّكاةَ أي الواجبة. وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قال ابن عباس : يريد سوى الزكاة من صلة الرحم وقرى الضيف، وقيل يريد سائر الصّدقات، وذلك بأن يخرجها على أحسن وجه من كسب طيب، ومن أكثر الأموال نفعا للفقراء ومراعاة النيّة والإخلاص وابتغاء مرضاة اللّه تعالى بما يخرج والصرف إلى المستحق.
وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ أي ثوابه وأجره هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً يعني أن الذي قدمتم لأنفسكم خير من الذي أخرتموه ولم تقدموه وروى البغوي بسنده عن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه قالوا يا رسول اللّه ما منا أحد إلا ما له أحب إليه من مال وارثه قال اعلموا ما تقولون قالوا ما نعلم إلا ذلك يا رسول اللّه قال ما منكم رجل إلا مال وارثه أحب إليه من ماله، قالوا كيف يا رسول اللّه؟ قال : إنما قال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر» وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ أي لذنوبكم وتقصيركم في قيام الليل إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لجميع الذنوب، واللّه تعالى أعلم.