لباب التأويل، ج ٤، ص : ٣٦٣
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٦ الى ١٤]
وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤)
وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ يعني لا تعط مالك مصانعة لتعطي أكثر منه هذا قول أكثر المفسرين وهذا النهي مختص بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وإنما نهي عن ذلك تنزيها لمنصب النبوة لأن من أعطى شيئا لغيره يطلب منه الزيادة عليه لا بد وأن يتواضع لذلك الذي أعطاه، ومنصب النّبوة بحل عن ذلك وهذا غير موجود في حق الأمة، فيجوز لغيره من الأمة ذلك كما قيل هما رباءان حلال وحرام فالحلال الهدية يهديها الرجل لغيره ليعطيه أكثر منها وأما الحرام فالربا المحرم بنص الشرع، وقيل معناه لا تعط شيئا لمجازاة الدنيا أعط للّه وأراد به وجه اللّه. وقيل معناه لا تمنن على اللّه بعملك فتستكثره، ولا يكثرن عملك في عينك فإنه مما أنعم اللّه به عليك وأعطاك. وقيل معناه لا تمنن على أصحابك بما تعلمهم من أمر الدين وتبلغهم من أمر الوحي كالمستكثر بذلك عليهم، وقيل لا تمنن عليهم بنبوتك فتأخذ منهم على ذلك أجرا تستكثر به، وقيل معناه لا تمنن لا تضعف عن الخير تستكثر منه، وقيل معناه لا تمنن على النّاس بما تنعم عليهم وتعطيهم استكثارا منك لتلك العطية، فإن المن يحبط العمل وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أي على طاعته وأوامره ونواهيه لأجل ثواب اللّه تعالى وقيل معناه فاصبر للّه على ما أوذيت فيه، وقيل معناه إنك حملت أمرا عظيما فيه محاربة العرب والعجم، فاصبر على ذلك للّه عز وجل، وقيل معناه فاصبر تحت موارد القضاء لأجل اللّه فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ أي نفخ في الصور وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل وهي النّفخة الأولى، وقيل الثانية وهو الأصح فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يعني يوم النفخة وهو يوم القيامة يَوْمٌ عَسِيرٌ أي شديد عَلَى الْكافِرِينَ يعني يعسر عليهم في ذلك اليوم الأمر، فيعطون كتبهم بشمائلهم وتسود وجوههم غَيْرُ يَسِيرٍ أي غير هين.
فإن قلت ما فائدة قوله غير يسير وعسير مغن عنه.
قلت : فائدة التكرار التّأكيد كقوله : أنا محب لك غير مبغض، وقيل لما كان على الكافرين غير يسير دل على أنه يهون على المؤمنين بخلاف الكفار فإنه عليهم عسير لا يسر فيه ليزداد غيظ الكافرين وبشارة المؤمنين قوله تعالى : ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً أي خلقته في بطن أمه وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد، وقيل معناه خلقته وحدي لم يشاركني في خلقه أحد، والمعنى ذرني وإيّاه، فأنا أكفيكه نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان يسمى الوحيد في قومه. وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً أي كثير يمد بعضه بعضا دائما غير منقطع، وقيل ما يمد بالنماء كالزرع والضرع والتجارة واختلفوا في مبلغه، فقيل كان ألف دينار وقيل أربعة آلاف درهم، وقيل ألف ألف وقال ابن عباس : تسعة آلاف مثقال فضة وعنه كان له بين مكة والطّائف إبل وخيل ونعم، وكان له غنم كثيرة وعبيد وجوار : وقيل كان له بستان بالطّائف لا تنقطع ثماره شتاء ولا صيفا، وقيل كان له غلة شهر بشهر، وَبَنِينَ شُهُوداً أي حضورا بمكة لا يغيبون عنه لأنهم كانوا أغنياء غير محتاجين إلى الغيبة لطلب الكسب، وقيل معنى شهودا أي رجالا يشهدون معه المحافل والمجامع، قيل كانوا عشرة وقيل سبعة وهم الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد شمس أسلم منهم ثلاثة نفر خالد وهشام وعمارة وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً أي بسطت له في العيش وطول العمر بسطا مع الجاه العريض والرياسة في قومه، وكان الوليد من أكابر قريش وكان يدعى ريحانة قريش.