لباب التأويل، ج ٤، ص : ٣٩٢
فتنخر أي توصت قالُوا يعني المنكرين للبعث إذا عاينوا أهوال القيامة تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ أي رجعة غابنة يعني إن رددنا بعد الموت لنخسرن بما يصيبنا بعد الموت. فَإِنَّما هِيَ يعني النفخة الأخيرة زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي صيحة واحدة يجمعون بها جميعا فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ يعني وجه الأرض سميت ساهرة لأن عليها نوم الحيوان وسهرهم، وقيل هي التي كثر الوطء عليها كأنها سهرت، والمعنى أنهم كانوا في بطن الأرض. فلما سمعوا الصيحة صاروا على وجهها، وقيل هي أرض الشام وقيل أرض القيامة، وقيل هي أرض جهنم.
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ١٥ الى ٢٧]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧)
قوله عز وجل : هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى يا محمد وذلك أنه صلّى اللّه عليه وسلّم شق عليه حين كذبه قومه، فذكر له قصة موسى عليه الصلاة والسلام وأنه كان يتحمل المشاق من قومه ليتأسى به إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ أي المطهر طُوىً هو اسم واد بالشام عند الطور اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى أي علا وتكبر وكفر باللّه فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى أي تتطهر من الشّرك والكفر، وقيل معناه تسلم وتصلح العمل وقال ابن عباس : تشهد أن لا إله إلا اللّه وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ أي أدعوك إلى عبادة ربك وتوحيده فَتَخْشى يعني عقابه وإنما خص فرعون بالذكر، وإن كانت دعوة موسى شاملة لجميع قومه لأن فرعون كان أعظمهم فكانت دعوته دعوة لجميع قومه فَأَراهُ أي أرى موسى فرعون الْآيَةَ الْكُبْرى يعني اليد البيضاء والعصا فَكَذَّبَ يعني فرعون بأنها من اللّه وَعَصى أي تمرد وأظهر التجبر ثُمَّ أَدْبَرَ أي أعرض عن الإيمان يَسْعى يعمل الفساد في الأرض فَحَشَرَ أي فجمع قومه وجنوده فَنادى أي لما اجتمعوا فَقالَ يعني فرعون لقومه أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى أي لا رب فوقي، وقيل أراد أن الأصنام أرباب وهو ربها وربهم فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أي عاقبة فجعله عبرة لغيره بأن أغرقه في الدنيا ويدخله النار في الآخرة، وقيل أراد بالآخرة والأولى كلمتي فرعون وهما قوله ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي وقوله أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وكان بينهما أربعون سنة إِنَّ فِي ذلِكَ أي في الذي فعل بفرعون حين كذب وعصى لَعِبْرَةً أي عظة لِمَنْ يَخْشى أي يخاف اللّه عز وجل ثم عاتب منكري البعث فقال تعالى : أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها معناه أخلقكم بعد الموت أشد أم خلق السّماء عندكم في تقديركم.
فإن كلا الأمرين بالنسبة إلى قدرة اللّه واحد، لأن خلق الإنسان على صغره وضعفه إذا أضيف إلى خلق السماء مع عظمها وعظم أحوالها كان يسيرا فبين تعالى : أن خلق السماء أعظم، وإذا كان كذلك كان خلقكم بعد الموت أهون على اللّه تعالى : فكيف تنكرون ذلك مع علمكم بأنه خلق السموات والأرض ولا تنكرون ذلك. ثم إنه تعالى ذكر كيفية خلق السّماء والأرض فقال تعالى :