لباب التأويل، ج ٤، ص : ٣٩٩
تخنس في مجاريها، أي ترجع وراءها في الفلك، وتنكس، أي تستر وقت اختفائها، وقيل إنها تخنس، أي تتأخر عن مطالعها، والكنس معناه أنها لا ترى بالنهار، وقيل هي الظباء، وهي رواية عن ابن عباس، وأصل الخنوس الرّجوع إلى وراء، والكنوس هو أن تأوي إلى كناسها، وهو الموضع الذي يأوي إليه الوحوش. وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ أي أقبل بظلامه وقيل أدبر، والعسعسة رقة الظّلام، وذلك يكون في طرف الليل. وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أي أقبل وبدا أوله وقيل أسفر.
وفي تنفسه قولان أحدهما : أن في إقبال الصبح روحا، ونسيما فجعل ذلك نفسا على المجاز الثاني، أنه شبه الليل بالمكروب المحزون، فإذا تنفس وجد راحة، فكأنه تخلص من الحزن، فعبر عنه بالتنفس، فهو استعارة لطيفة، ولما ذكر المقسم به أتبعه بالمقسم عليه فقال تعالى : إِنَّهُ يعني القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ يعني جبريل عليه الصلاة والسلام والمعنى أن جبريل نزل به عن اللّه عز وجل : ذِي قُوَّةٍ وكان من قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط الأربع من الماء الأسود، وحملها على جناحه، فرفعها إلى السماء، ثم قلبها، وأنه أبصر إبليس يكلم عيسى عليه الصلاة والسلام على بعض عقاب الأرض المقدسة، فنفحه بجناحه نفحة ألقاه إلى أقصى جبل بالهند، وأنه صاح صيحة بثمود، فأصبحوا جاثمين، وأنه يهبط من السّماء إلى الأرض، ثم يصعد في أسرع من رد الطّرف عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أي في المنزلة والجاه مُطاعٍ ثَمَّ أي في السموات تطيعه الملائكة، ومن طاعة الملائكة له أنهم فتحوا أبواب السّموات ليلة المعراج بقوله لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وفتح خزنة الجنة أبوابها بقوله أَمِينٍ يعني على وحي اللّه تعالى إلى أنبيائه وَما صاحِبُكُمْ يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم يخاطب كفار مكة بِمَجْنُونٍ وهذا أيضا من جواب القسم أقسم على أن القرآن نزل به جبريل وأن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم ليس بمجنون كما يقول أهل مكة، وذلك أنهم قالوا إنه مجنون، وأن ما يقوله ليس هو إلا من عند نفسه فنفى اللّه عنه الجنون، وكون القرآن من عند نفسه.
[سورة التكوير (٨١) : الآيات ٢٣ الى ٢٩]
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧)
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩)
وَلَقَدْ رَآهُ يعني رأى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم جبريل عليه الصلاة والسلام على صورته التي خلق فيها بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ يعني بالأفق الأعلى من ناحية المشرق حيث تطلع الشّمس، وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لجبريل عليه الصّلاة والسّلام «إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون فيها في السّماء قال : لن تقوى على ذلك قال، بلى قال، فأين تشاء أن أتخيل لك قال بالأبطح، قال لا يسعني ذلك، قال : فبمنى قال لا يسعني ذلك قال فبعرفات، قال : لا يسعني ذلك قال بحراء قال إن يسعني فواعده فخرج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في ذلك الوقت. فإذا هو بجبريل قد أقبل من حيال عرفات بخشخشه، وكلكله قد ملأ ما بين المشرق، والمغرب، ورأسه في السماء، ورجلاه في الأرض، فلما رآه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم خر مغشيا عليه، فتحول جبريل عن صورته، وضمه إلى صدره، وقال : يا محمد لا تخف، فكيف لو رأيت إسرافيل، ورأسه تحت العرش، ورجلاه في تخوم الأرض السابعة، وإن العرش لعلى كاهله، وإنه ليتضاءل أحيانا من مخافة اللّه جلّ جلاله وعلا علاؤه وشأنه حتى يصير كالصّعو، يعني العصفور حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته» وَما هُوَ يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم عَلَى الْغَيْبِ أي الوحي وخبر السّماء، وما اطلع عليه مما كان غائبا عن علمه من القصص والأنباء.
بِضَنِينٍ قرأ بالظاء، ومعناه بمتهم والمظنة التهمة، وقرئ بضنين بالضاد، ومعناه ببخيل يقول إنه يأتيه علم الغيب، ولا يبخل به عليكم، ويخبركم به، ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده حتى يأخذ عليه حلوانا، وهو أجرة الكاهن، وقراءة الظاء أولى لأنهم لم يبخلوه، وإنما اتهموه، فنفى اللّه عنه تلك التهمة، ولو أراد البخل لقال وما هو بالغيب. وَما هُوَ يعني


الصفحة التالية
Icon