لباب التأويل، ج ٤، ص : ٥٥
نور من ربه قلنا يا رسول اللّه كيف انشراح صدره قال إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح قلنا يا رسول اللّه فما علامات ذلك قال الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت» فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ القسوة جمودة وصلابة تحصل في القلب.
فإن قلت كيف يقسو القلب عن ذكر اللّه وهو سبب لحصول النور والهداية؟
قلت إنهم كلما تلي ذكر اللّه على الذين يكذبون به قست قلوبهم عن الإيمان به وقيل إن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر بعيدة عن قبول الحق فإن سماعها لذكر اللّه لا يزيدها إلا قسوة، وكدورة كحر الشمس يلين الشمع ويعقد الملح فكذلك القرآن يلين قلوب المؤمنين عن سماعه ولا يزيد الكافرين إلا قسوة قال مالك بن ديار ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب اللّه تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قيل : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه وفي أبي بن خلف، وقيل : في علي وحمزة وفي أبي لهب وولده وقيل في رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وفي أبي جهل.
قوله عز وجل : اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يعني القرآن وكونه أحسن الحديث لوجهين أحدهما من جهة اللفظ والآخر من جهة المعنى، أما الأول فلأن القرآن من أفصح الكلام وأجزله وأبلغه وليس هو من جنس الشعر ولا من جنس الخطب والرسائل بل هو نوع يخالف الكل في أسلوبه، وأما الوجه الثاني وهو كون القرآن من أحسن الحديث لأجل المعنى فلأنه كتاب منزه عن التناقض والاختلاف مشتمل على أخبار الماضين وقصص الأولين وعلى أخبار الغيوب الكثيرة وعلى الوعد والوعيد والجنة والنار كِتاباً مُتَشابِهاً أي يشبه بعضه بعضا في الحسن ويصدق بعضه بعضا مَثانِيَ أي يثني فيه ذكر الوعد والوعيد والأمر والنهي والأخبار والأحكام تَقْشَعِرُّ أي تضطرب وتشمئز مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ والمعنى تأخذهم قشعريرة وهي تغيير يحدث في جلد الإنسان عند ذكر الوعيد والوجل والخوف. وقيل المراد من الجلود القلوب أي قلوب الذين يخشون ربهم ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي لذكر اللّه تعالى قيل إذا ذكرت آيات الوعيد والعذاب اقشعرت جلود الخائفين للّه وإذا ذكرت آيات الرعد والرحمة لانت جلودهم وسكنت قلوبهم وقيل حقيقة المعنى أن جلودهم تقشعر عند الخوف وتلين عند الرجاء. روي عن العباس بن عبد المطلب قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «إذا اقشعر جلد العبد من خشية اللّه تعالى تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها» وفي رواية «حرمه اللّه تعالى على النار» قال بعض العارفين : السيارون في بيداء جلال اللّه إذا نظروا إلى عالم الجلال طاشوا وإذا لاح لهم جمال من عالم الجمال عاشوا.
وقال قتادة : هذا نعت أولياء اللّه الذي نعتهم اللّه به بأن تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم بذكر اللّه ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما ذلك في أهل البدع وهو من الشيطان، وروي عن عبد اللّه بن عروة بن الزبير قال «قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنهما كيف كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن؟ قالت : كانوا كما نعتهم اللّه عز وجل تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم، قال عبد اللّه : فقلت لها إن ناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خرّ أحدهم مغشيا عليه، قالت :
أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم»
وروي أن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما مرّ برجل من أهل العراق ساقط فقال ما بال هذا قالوا إنه إذا قرئ عليه القرآن أو سمع ذكر اللّه سقط فقال ابن عمر : إنا لنخشى اللّه وما نسقط وقال ابن عمر : إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم. وذكر عن ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن فقال بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فإن رمى بنفسه فهو صادق : فإن قلت لما ذكرت الجلود وحدها أولا في جانب الخوف ثم قرنت معها القلوب ثانيا في الرجاء قلت إذا ذكرت الخشية التي محلها القلوب اقشعرت الجلود من ذكر آيات


الصفحة التالية
Icon