لباب التأويل، ج ٤، ص : ٦٠
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤٦ الى ٥٠]
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠)
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وصف نفسه بكمال القدرة وكمال العلم أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي من أمر الدنيا (م) عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن قال «سألت عائشة رضي اللّه تعالى عنها بأي شيء كان نبي اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت كان إذا قام من الليل افتتح صلاته قال اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم».
قوله عز وجل : وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ يعني ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا أنه نازل بهم في الآخرة، وقيل ظنوا أن لهم حسنات فبدت لهم سيئات والمعنى أنهم كانوا يتقربون إلى اللّه تعالى بعبادة الأصنام فلما عوقبوا عليها بدا لهم من اللّه ما لم يحتسبوا، وروي أن محمد بن المنكدر جزع عند الموت فقيل له في ذلك فقال أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا يعني مساوي أعمالهم من الشرك والظلم أولياء اللّه تعالى : وَحاقَ يعني نزل بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ يعني شدة دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ يعني أعطيناه نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ يعني من اللّه تعالى علم أني له أهل وقيل على خير علمه اللّه عنده بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ يعني تلك النعمة استدراج من اللّه تعالى وامتحان وبلية وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ يعني أنها استدراج من اللّه تعالى : قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني قارون فإنه قال إنما أوتيته على علم عندي فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ يعني فما أغنى الكفر من العذاب شيئا.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣)
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي جزاؤها وهو العذاب ثم أوعد كفار مكة فقال تعالى وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي بفائتين لأن مرجعهم إلى اللّه تعالى : أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أي يوسع الرزق لمن يشاء وَيَقْدِرُ أي يقتر ويقبض على من يشاء إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي يصدقون.
قوله تعالى : قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما في سبب نزول هذه الآية «أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا وانتهكوا الحرمات فأتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا يا محمد إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا بأن لما عملنا كفارة فنزلت والذين لا يدعون مع اللّه إلها آخر إلى قوله فأولئك يبدل اللّه سيئاتهم حسنات قال يبدل شركهم إيمانا وزناهم إحصانا ونزلت قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» أخرجه النسائي. وعن ابن عباس أيضا قال «بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلق أثاما يضاعف له العذاب وأنا قد فعلت ذلك كله فأنزل اللّه تعالى إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً


الصفحة التالية
Icon