البحر المحيط، ج ١، ص : ١٠٩
المفسدون خبره. والجملة خبر لأن، وقد تقدم ذكر فائدة الفصل عند الكلام على قوله :
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وتحقيق الاستدراك هنا في قوله : وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ، هو أن الإخبار عنهم أنهم هم المفسدون يتضمن علم اللّه ذلك، فكان المعنى أن اللّه قد علم أنهم هم المفسدون، ولكن لا يعلمون ذلك، فوقعت لكن إذ ذاك بين متنافيين، وجهة الاستدراك أنهم لما نهوا عن إيجاد مثل ما كانوا يتعاطونه من الإفساد فقابلوا ذلك بأنهم مصلحون في ذلك، وأخبر اللّه عنهم أنهم هم المفسدون، كانوا حقيقين بأن يعلموا أن ذلك كما أخبر اللّه تعالى، وأنهم لا يدعون أنهم مصلحون، فاستدرك عليهم هذا المعنى الذي فاتهم من عدم الشعور بذلك. تقول : زيد جاهل ولكن لا يعلم، وذلك أنه من حيث اتصف بالجهل وصار وصفا قائما بزيد، كان ينبغي لزيد أن يكون عالما بهذا الوصف الذي قام به، إذ الإنسان ينبغي أن يعلم ما اشتمل عليه من الأوصاف، فاستدرك عليه بلكن، لأنه مما كثر في القرآن ويغمض في بعض المواضع إدراكه. قالوا : ومفعول يشعرون محذوف لفهم المعنى تقديره أنهم مفسدون، أو أنهم معذبون، أو أنهم ينزل بهم الموت فتنقطع التوبة، والأولى الأول، ويحتمل أن لا ينوي محذوف فيكون قد نفى عنهم الشعور من غير ذكر متعلقه ولا نية، وهو أبلغ في الذم، جعلوا لدعواهم ما هو إفساد إصلاحا ممن انتفى عنه الشعور وكأنهم من البهائم، لأن من كان متمكنا من إدراك شيء فأهمل الفكر والنظر حتى صار يحكم على الأشياء الفاسدة بأنها صالحة، فقد انتظم في سلك من لا شعور له ولا إدراك، أو من كابر وعاند فجعل الحق باطلا، فهو كذلك أيضا. وفي قوله تعالى : وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ تسلية عن كونهم لا يدركون الحق، إذ من كان من أهل الجهل فينبغي للعالم أن لا يكترث بمخالفته.
والكلام على قوله تعالى : وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كالكلام على قوله تعالى : وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا من حيث عطف هذه الجملة على سبيل الاستئناف، أو عطفها على صلة من من قوله : من يقول، أو عطفها على يكذبون، ومن حيث العامل في إذا، ومن حيث حكم الجملة بعد إذا، ومن حيث المفعول الذي لم يسم فاعله. واختلف في القائل لهم آمنوا، فقال ابن عباس : الصحابة، ولم يعين أحدا منهم، وقال مقاتل : قوم مخصوصون منهم وهم : سعد بن معاذ، وأبو لبابة، وأسيد بن الحضير. ولما نهاهم تعالى عن الإفساد أمرهم بالإيمان لأن الكمال يحصل بترك ما لا ينبغي وبفعل ما ينبغي، وبدىء بالمنهي عنه لأنه الأهم، ولأن المنهيات عنها هي من باب التروك، والتروك أسهل في الامتثال من امتثال