البحر المحيط، ج ١، ص : ١١
ومما برعوا فيه علم الكتاب، انفردوا بإقرائه مذ اعصار دون غيرهم من ذوي الآداب، أثاروا كنوزه، وفكوا رموزه، وقربوا قاصيه، وراضوا عاصيه، وفتحوا مقفله، وأوضحوا مشكله، وأنهجوا شعابه، وذللوا صعابه، وأبدوا معانيه في صورة التمثيل، وأبدعوه بالتركيب والتحليل. فالكتاب هو المرقاة إلى فهم الكتاب، إذ هو المطلع على علم الإعراب، والمبدي من معالمه ما درس، والمنطق من لسانه ما خرس، والمحيي من رفاته ما رمس، والراد من نظائره ما طمس. فجدير لمن تاقت نفسه إلى علم التفسير، وترقت إلى التحقيق فيه والتحرير، أن يعتكف على كتاب سيبويه، فهو في هذا الفن المعوّل عليه، والمستند في حل المشكلات إليه. ولم ألق في هذا الفن من يقارب أهل قطرنا الأندلسي فضلا عن المماثلة، ولا من يناضلهم فيداني في المناضلة، وما زلت من لدن ميزت أتلمذ للعلماء، وأنحاز للفهماء، وأرغب في مجالسهم، وأنافس في نفائسهم، وأسلك طريقهم، وأتبع فريقهم، فلا أنتقل إلا من إمام إلى إمام، ولا أتوقل إلا ذروة علام. فكم صدر أودعت علمه صدري، وحبر أفنيت في فوائده حبري، وإمام أكثرت به الإلمام، وعلام أطلت معه الاستعلام، أشنف المسامع بما تحسد عليه العيون، وأذيل في تطلاب ذلك المال المصون، وأرتع في رياض وارفة الظلال، وأكرع في حياض صافية السلسال، وأقتبس بها من أنوارهم، وأقتطف من أزهارهم، وأبتلج من صفحاتهم، وأتأرج من نفحاتهم، وألقط من نثارهم، وأضبط من فضالة إيثارهم، وأقيد من شواردهم، وأنتقي من فرائدهم.
فجعلت العلم بالنهار سحيري، وبالليل سميري، زمان غيري يقصر ساريه على الصبا، ويهب للهو ولا كهبوب الصبا، ويرفل في مطارف اللهو، ويتقمص أردية الزهو، ويؤثر مسرات الأشباح، على لذات الأرواح، ويقطع نفائس الأوقات، في خسائس الشهوات، من مطعم شهي، ومشرب روي، وملبس بهي، ومركب خطي، ومفرش وطي، ومنصب سني، وأنا أتوسد أبواب العلماء، وأتقصد أماثل الفهماء، وأسهر في حنادس الظلام، وأصبر على شظف الأيام، وأوثر العلم على الأهل والمال والولد، وأرتحل من بلد إلى بلد، حتى ألقيت بمصر عصا التسيار، وقلت ما بعد عبادان من دار، هذه مشارق الأرض ومغاربها، وبها طوالع شموسها وغواربها، بيضة الإسلام، ومستقر الأعلام، فأقمت بها لمعرفة أبديها، وعارفة علم أسديها، وثأي أرأبه، وفاضل أصحبه، وبها صنفت تصانيفي، وألفت تآليفي، ومن بركاتها على تصنيفي لهذا الكتاب، المقرب من رب الأرباب، المرجو أن يكون نورا يسعى بين يديّ، وسترا من النار يضفو عليّ. فما لمخلوق بتأليفه قصدت، ولا غير وجه اللّه به