البحر المحيط، ج ١، ص : ١٢٩
الكلام، لأنه قدره خمدت، وأي استطالة في قوله : فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ، خمدت؟ بل هذا لما وجوابها، فلا استطالة بخلاف قوله : فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ، فإن الكلام قد طال بذكر المعاطيف التي عطفت على الفعل وذكر متعلقاتها بعد الفعل الذي يلي لما، فلذلك كان الحذف سائغا لاستطالة الكلام. وقوله : مع أمن الإلباس، وهذا أيضا غير مسلم، وأي أمن إلباس في هذا ولا شيء يدل على المحذوف؟ بل الذي يقتضيه ترتيب الكلام وصحته ووضعه مواضعه أن يكون ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ هو الجواب، فإذا جعلت غيره الجواب مع قوة ترتب ذهاب اللّه بنورهم على الإضاءة، كان ذلك من باب اللغز، إذ تركت شيئا يبادر إلى الفهم وأضمرت شيئا يحتاج في تقديره إلى وحي يسفر عنه، إذ لا يدل على حذفه اللفظ مع وجود تركيب ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ.
ولم يكتف الزمخشري بأن جوز حذف هذا الجواب حتى ادعى أن الحذف أولى، قال : وكان الحذف أولى من الإثبات، لما فيه من الوجازة مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ للفظ في أداء المعنى، كأنه قيل : فلما أضاءت ما حوله خمدت، فبقوا خابطين في ظلام، متحيرين متحسرين على فوت الضوء، خائبين بعد الكدح في إحياء النار، انتهى. وهذا الذي ذكره نوع من الخطابة لا طائل تحتها، لأنه كان يمكن له ذلك لو لم يكن يلي قوله : فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ، قوله : ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ. وأما ما في كلامه بعد تقدير خمدت إلى آخره، فهو مما يحمل اللفظ ما لا يحتمله، ويقدر تقادير وجملا محذوفة لم يدل عليها الكلام، وذلك عادته في غير ما كلام في معظم تفسيره، ولا ينبغي أن يفسر كلام اللّه بغير ما يحتمله، ولا أن يزاد فيه، بل يكون الشرح طبق المشروح من غير زيادة عليه ولا نقص منه. ولما جوز واحذف الجواب تكلموا في قوله تعالى : ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، فخرجوا ذلك على وجهين : أحدهما : أن يكون مستأنفا جواب سؤال مقدر كأنه قيل : ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد؟ فقيل : ذهب اللّه بنورهم. والثاني : أن يكون بدلا من جملة التمثيل على سبيل البيان، قالهما الزمخشري، وكلا الوجهين مبنيان على أن جواب لما محذوف، وقد اخترنا غيره وأنه قوله تعالى : ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ والوجه الثاني من التخريجين اللذين تقدم ذكرهما، وهو أن يكون قوله : ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ بدلا من جملة التمثيل، على سبيل البيان، لا يظهر في صحته، لأن جملة التمثيل هي قوله : مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً، فجعله ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ بدلا من هذه الجملة، على سبيل البيان، لا يصح، لأن البدل لا يكون في الجمل