البحر المحيط، ج ١، ص : ١٦٠
السببية. فالماء سبب للخروج، كما أن ماء الفحل سبب في خلق الولد، وهذه السببية مجاز، إذ الباري تعالى قادر على أن ينشىء الأجناس، وقد أنشأ من غير مادة ولا سبب، ولكنه تعالى لما أوجد خلقه في بعض الأشياء عند أمر ما، أجرى ذلك الأمر مجرى السبب لا أنه سبب حقيقيّ. وللّه تعالى في إنشاء الأمور منتقلة من حال إلى حال حكم يستنصر بها، لم يكن في إنشائها دفعة واحدة من غير انتقال أطوار، لأن في كل طور مشاهدة أمر من عجيب التنقل وغريب التدريج تزيد المتأمل تعظيما للباري. من الثمرات : من للتبعيض، والألف واللام في الثمرات لتعريف الجنس وجمع لاختلاف أنواعه، ولا ضرورة تدعو إلى ارتكاب أن الثمرات من باب الجموع التي يتفاوت بعضها موضع بعض لالتقائهما في الجمعية، نحو : كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ «١»، وثَلاثَةَ قُرُوءٍ «٢»، فقامت الثمرات مقام الثمر أو الثمار على ما ذهب إليه الزمخشري، لأن هذا من الجمع المحلى بالألف واللام، فهو وإن كان جمع قلة، فإن الألف واللام التي للعموم تنقله من الاختصاص لجمع القلة للعموم، فلا فرق بين الثمرات والثمار، إذ الألف واللام للاستغراق فيهما، ولذلك رد المحققون على من نقد على حسان قوله :
لنا الجفنات الغر يا معن في الضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
بأن هذا جمع قلة، فكان ينبغي على زعمه أن يقول : الجفان وسيوفنا، وهو نقد غير صحيح لما ذكرناه من أن الاستغراق ينقله، وأبعد من جعل من زائدة، وجعل الألف واللام للاستغراق لوجهين : أحدهما : زيادة من في الواجب، وقيل معرفة، وهذا لا يقول به أحد من البصريين والكوفيين إلا الأخفش. والثاني : أنه يلزم منه أن يكون جميع الثمرات التي أخرجها رزقا لنا، وكم من شجرة أثمرت شيئا لا يمكن أن يكون رزقا لنا، وإن كانت للتبعيض كان بعض الثمار رزقا لنا وبعضها لا يكون رزقا لنا، وهو الواقع. وناسب في الآية تنكير الماء وكون من دالة على التبعيض وتنكير الرزق، إذ المعنى : وأنزل من السماء بعض الماء فأخرج به بعض الثمرات بعض رزق لكم، إذ ليس جميع رزقهم هو بعض الثمرات، إنما ذلك بعض رزقهم، ومن الثمرات يحتمل أن يكون في موضع المفعول به بأخرج، ويكون على هذا رزقا منصوبا على الحال إن أريد به المرزوق كالطحن والرعي، أو مفعولا من أجله إن أريد به المصدر، وشروط المفعول له فيه موجودة، ويحتمل أن يكون متعلقا بأخرج، ويكون رزقا مفعولا بأخرج. وقرأ ابن السميفع : من الثمرة على التوحيد، يريد به

_
(١) سورة الدخان : ٤٤/ ٢٥.
(٢) سورة البقرة : ٢/ ٢٢٨.


الصفحة التالية
Icon