البحر المحيط، ج ١، ص : ١٨٥
البقاء. ومن : في قوله : منها، هي لابتداء الغاية، وفي : من ثمرة كذلك، لأنه بدل من قوله : منها، أعيد معه حرف كقوله تعالى : كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها «١»، على أحد الاحتمالين، وكلتاهما تتعلق برزقوا على جهة البدل، كما ذكرناه، لأن الفعل لا يقضي حرفي جر في معنى واحد إلا بالعطف، أو على طريقة البدل، وهذا البدل هو بدل الاشتمال. وقد طول الزمخشري في إعراب قوله : من ثمرة، ولم يفصح بالبدل، لكن تمثيله يدل على أنه مراده، وأجاز أن يكون من ثمرة بيانا على منهاج قولك : رأيت منك أسدا، تريد أنت أسد، انتهى كلامه. وكون من للبيان ليس مذهب المحققين من أهل العربية، بل تأولوا ما استدل به من أثبت ذلك، ولو فرضنا مجيء من للبيان، لما صح تقديرها للبيان هنا، لأن القائلين بأن من للبيان قدروها بمضمر وجعلوه صدرا لموصول صفة، إن كان قبلها معرفة، نحو : فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «٢»، أي الرجس الذي هو الأوثان، وإن كان قبلها نكرة، فهو يعود على تلك النكرة نحو : من يضرب من رجل، أي هو رجل، ومن هذه ليس قبلها ما يصلح أن يكون بيانا له، لا نكرة ولا معرفة، إلا إن كان يتمحل لذلك أنها بيان لما بعدها، وأن التقدير : كلما رزقوا منها رزقا من ثمرة، فتكون من مبينة لرزقا، أي : رزقا هو ثمرة، فيكون في الكلام تقديم وتأخير. فهذا ينبغي أن ينزه كتاب اللّه عن مثله. وأما : رأيت منك أسدا، فمن لابتداء الغاية أو للغاية ابتداء وانتهاء، نحو :
أخذته منك، ولا يراد بثمرة الشخص الواحد من التفاح أو الرمان أو غير ذلك، بل المراد، واللّه أعلم، النوع من أنواع الثمار. قال الزمخشري : وعلى هذا، أي على تقدير أن تكون من بيانا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمار، والجنات الواحدة، انتهى كلامه. وقد اخترنا أن من لا تكون بيانا فلا نختار ما ابتنى عليه، مع أن قوله : والجنات الواحدة مشكل يحتاج فهمه إلى تأمل، ورزقا هنا هو المرزوق، والمصد فيه بعيد جدا لقوله : هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً، فإن المصدر لا يؤتى به متشابها، إنما هذا من الإخبار عن المرزوق لا عن المصدر.
قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ، قالوا : هو العامل في كلما، وهذا الذي : مبتدأ معمول للقول. فالجملة في موضع مفعول، والمعنى : هذا، مثل : الذي رزقنا، فهو من باب أما الخبر شبه به المبتدأ، وإنما احتيج إلى هذا الإضمار، لأن الحاضر بين أيديهم في ذلك الوقت يستحيل أن يكون عين الذي تقدم إن رزقوه، ثم هذه المثلية المقدرة حذفت
(١) سورة الحج : ٢٢/ ٢٢.
(٢) سورة الحج : ٢٢/ ٣٠.