البحر المحيط، ج ١، ص : ٢٠٥
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ : يحتمل النصب والرفع. فالنصب من وجهين : إما على الاتباع، وإما على القطع، أي أذم الذين. والرفع من وجهين : إما على القطع، أي هم الذين، وإما على الابتداء، ويكون الخبر الجملة من قوله : أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وعلى هذا الإعراب تكون هذه الجملة كأنها كلام مستأنف، لا تعلق لها بما قبلها إلا على بعد، فالأولى من هذا الإعراب الأعاريب التي ذكرناها وأولاها الاتباع، وتكون هذه الصفة صفة ذم، وهي لازمة، إذ كل فاسق ينقض العهد ويقطع ما أمر اللّه بوصله. واختلفوا في تفسير العهد على أقوال : أحدها : أنه وصية اللّه إلى خلقه، وأمره لهم بطاعته، ونهيه لهم عن معصيته في كتبه المنزلة وعلى ألسنة أنبيائه المرسلة، ونقضهم له تركهم العمل به. الثاني : أنه العهد الذي أخذه اللّه عليهم حين أخرجهم من أصلاب آبائهم في قوله : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ «١» الآية، ونقضهم له كفر، بعضهم بربوبيته، وبعضهم بحقوق نعمته. الثالث : ما أخذه اللّه عليهم في الكتب المنزلة من الإقرار بتوحيده والاعتراف بنعمه والتصديق لأنبيائه ورسله، وبما جاؤوا به في قوله : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ «٢» الآية، ونقضهم له نبذه وراء ظهورهم، وتبديل ما في كتبهم من وصفه صلّى اللّه عليه وسلّم.
الرابع : ما أخذه اللّه تعالى على الأنبياء ومتبعيهم أن لا يكفروا باللّه ولا بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وأن ينصروه ويعظموه في قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ «٣» الآية، ونقضهم له إنكارهم لنبوته وتغييرهم لصفته. الخامس : إيمانهم به صلّى اللّه عليه وسلّم ورسالته قبل بعثه ونقضهم له جحدهم لنبوته ولصفته. السادس : ما جعله في عقولهم من الحجة على توحيده وتصديق رسوله، بالنظر في المعجزات الدالة على إعجاز القرآن وصدقه ونبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، ونقضهم هو تركهم النظر في ذلك وتقليدهم لآبائهم. السابع : الأمانة المعروضة على السموات والأرض التي حملها الإنسان، ونقضهم تركهم القيام بحقوقها. الثامن : ما أخذه عليهم من أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، ونقضهم عودهم إلى ما نهوا عنه، وهذا القول يدل على أن المخاطب بذلك بنو إسرائيل. التاسع : هو الإيمان والتزام الشرائع، ونقضه كفره بعد الإيمان.
وهذه الأقوال التسعة منها ما يدل على العموم في كل ناقض للعهد، ومنها ما يدل على أن المخاطب قوم مخصوصون، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف الذي وقع في

_
(١) سورة الأعراف : ٧/ ١٧٢.
(٢) سورة آل عمران : ٣/ ١٨٧.
(٣) سورة آل عمران : ٣/ ٨١.


الصفحة التالية
Icon