البحر المحيط، ج ١، ص : ٢٠٧
وأجاز أبو البقاء أن تكون ما نكرة موصوفة، وقد بينا ضعف القول بأن ما تكون موصوفة خصوصا هنا، إذ يصير المعنى : ويقطعون شيئا أمر اللّه به أن يوصل، فهو مطلق ولا يقع الذم البليغ والحكم بالفسق والخسران بفعل مطلق ما، والأمر هو استدعاء الأعلى الفعل من الأدنى، قال الزمخشري : وبعثه عليه، وهي نكتة اعتزالية لطيفة، قال : وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور، لأن الداعي الذي يدعو إليه من لا يتولاه شبه بآمر يأمره به، فقيل له : أمر تسمية للمفعول به بالمصدر كأنه مأمور به، كما قيل له : شأن، والشأن الطلب والقصد، يقال شأنت شأنه، أي قصدت قصده، وأمر يتعدى إلى اثنين، والأول محذوف لفهم المعنى، أي ما أمر اللّه به، وأن يوصل في موضع جر بدل من الضمير في به تقديره به وصله، أي ما أمرهم اللّه بوصله، نحو قال الشاعر :
أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص فتقصر عنها حقبة وتبوص
أي أمن ذكر سلمى نأيها.
وأجاز المهدوي وابن عطية وأبو البقاء أن تكون أن يوصل في موضع نصب بدلا من ما، أي وصله، والتقدير : ويقطعون وصل ما أمر اللّه به. وأجاز المهدوي وابن عطية أن تكون في موضع نصب مفعولا من أجله، وقدره المهدوي كراهية أن يوصل، فيكون الحامل على القطع لما أمر اللّه كراهية أن يوصل. وحكى أبو البقاء وجه المفعول من أجله وقدره لئلا، وأجاز أبو البقاء أن يكون أن يوصل في موضع رفع، أي هو أن يوصل. وهذه الأعاريب كلها ضعيفة، ولو لا شهرة قائلها لضربت عن ذكرها صفحا. والأول الذي اخترناه هو الذي ينبغي أن يحمل عليه كلام اللّه وسواه من الأعاريب، بعيد عن فصيح الكلام بله أفصح الكلام وهو كلام اللّه.
وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، فيه أربعة أقوال : أحدها : استدعاؤهم إلى الكفر، والترغيب فيه، وحمل الناس عليه. الثاني : إخافتهم السبيل، وقطعهم الطريق على من هاجر إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وغيرهم. الثالث : نقض العهد. الرابع : كل معصية تعدى ضررها إلى غير فاعلها. وقال ابن عطية : يعبدون غير اللّه، ويجوزون في الأفعال، إذ هي بحسب شهواتهم، وهذا قريب من القول الرابع. وقد تقدّم ما معنى في الأرض، والتنبيه على ذكر الأرض، عند الكلام على قوله : وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ «١»، فأغنى عن

_
(١) سورة البقرة : ٢/ ١١.


الصفحة التالية
Icon