البحر المحيط، ج ١، ص : ٢١٤
التناسب اللفظي. وقد حصل التناسب المعنوي بحذف الفاعل، إذ هو قبل البناء للمفعول مبني للفاعل. وأما قراءة مجاهد، ومن ذكر معه، فإنه يفوت التناسب المعنوي، إذ لا يلزم من رجوع الشخص إلى شيء أن غيره رجعه إليه، إذ قد يرجع بنفسه من غير رادّ.
والمقصود هنا إظهار القدرة والتصرف التام بنسبة الإحياء والإماتة، والإحياء والرجوع إليه تعالى، وإن كنا نعلم أن اللّه تعالى هو فاعل الأشياء جميعها. وفي قوله تعالى : ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ من الترهيب والترغيب ما يزيد المسيء خشية ويرده عن بعض ما يرتكبه، ويزيد المحسن رغبة في الخير ويدعوه رجاؤه إلى الازدياد من الإحسان، وفيها رد على الدهرية والمعطلة ومنكري البعث، إذ هو بيده الإحياء والإماتة والبعث وإليه يرجع الأمر كله.
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً : مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، وهو أنه لما ذكر أن من كان منشئا لكم بعد العدم ومفنيا لكم بعد الوجود وموجدا لكم ثانية، إما في جنة، وإما إلى نار، كان جديرا أن يعبد ولا يجحد، ويشرك ولا يكفر. ثم أخذ يذكرهم عظيم إحسانه وجزيل امتنانه من خلق جميع ما في الأرض لهم، وعظيم قدرته وتصرفه في العالم العلوي، وأن العالم العلوي والعالم السفلي بالنسبة إلى قدرته على السواء، وأنه عليم بكل شيء. ولفظة هو من المضمرات وضع للمفرد المذكر الغائب، وهو كلي في الوضع كسائر المضمرات، جرى في النسبة المخصوصة حالة الاستعمال، فما من مفرد مذكر غائب إلا ويصح أن يطلق عليه هو، لكن إذا أسند لهذا الاسم شيء تعين. ومشهور لغات العرب تخفيف الواو مفتوحة، وشددتها همدان، وسكنتها أسد وقيس، وحذف الواو مختص بالشعر. ولهؤلاء المنسوبين إلى علم الحقائق وإلى التصوف كلام غريب بالنسبة لمعقولنا، رأيت أن أذكره هنا ليقع الذكر فيه.
قالوا : أسماء اللّه تعالى على ثلاثة أقسام : مظهرات، ومضمرات، ومستترات.
فالمظهرات : أسماء ذات، وأسماء صفات، وهذه كلها مشتقة، وأسماء الذات مشتقة وهي كثيرة، وغير المشتق واحد وهو اللّه. وقد قيل : إنه مشتق، والذي ينبغي اعتقاده أنه غير مشتق، بل اسم مرتجل دال على الذات. وأما المضمرات فأربعة : أنا في مثل : اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا «١»، وأنت في مثل : لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ «٢»، وهو في مثل : هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ «٣»، ونحن في مثل : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ «٤». قالوا : فإذا تقرر هذا فاللّه أعظم

_
(١) سورة النحل : ١٦/ ٢.
(٢) سورة الأنبياء : ٢١/ ٨٧.
(٣) سورة البقرة : ٢/ ٢٩.
(٤) سورة يوسف : ١٢/ ٣.


الصفحة التالية
Icon