البحر المحيط، ج ١، ص : ٢٢٥
الظرف لا بد أن يقع فيه، أما أن يسبقه أو يتأخر عنه، فلا لأنه لا يكون له ظرفا. وذهب بعضهم إلى أن إذ منصوب يقال بعدها، وليس بشيء، لأن إذ مضافة إلى الجملة بعدها والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وذهب بعضهم إلى أن نصبها بأحياكم، تقديره :
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ «١»، إِذْ قالَ رَبُّكَ، وهذا ليس بشيء لأنه حذف بغير دليل، وفيه أن الإحياء ليس واقعا في وقت قول اللّه للملائكة، وحذف الموصول وصلته، وإبقاء معمول الصلة. وذهب بعضهم إلى أنه معمول لخلقكم من قوله تعالى : اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ «٢» إِذْ قالَ رَبُّكَ، فتكون الواو زائدة، ويكون قد فصل بين العامل والمعمول بهذه الجمل التي كادت أن تكون سورا من القرآن، لاستبداد كل آية منها بما سيقت له، وعدم تعلقها بما قبلها التعلق الإعرابي.
فهذه ثمانية أقوال ينبغي أن ينزه كتاب اللّه عنها. والذي تقتضيه العربية نصبه بقوله : قالُوا أَتَجْعَلُ، أي وقت قول اللّه للملائكة : إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ، قالُوا أَتَجْعَلُ، كما تقول في الكلام : إذ جئتني أكرمتك، أي وقت مجيئك أكرمتك، وإذ قلت لي كذا قلت لك كذا. فانظر إلى حسن هذا الوجه السهل الواضح، وكيف لم يوفق أكثر الناس إلى القول به، وارتبكوا في دهياء وخبطوا خبط عشواء. وإسناد القول إلى الرب في غاية من المناسبة والبيان، لأنه لما ذكر أنه خلق لهم ما في الأرض، كان في ذلك صلاح لأحوالهم ومعايشهم، فناسب ذكر الرب وإضافته إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تنبيه على شرفه واختصاصه بخطابه، وهز لاستماع ما يذكر بعد ذلك من غريب افتتاح هذا الجنس الإنساني، وابتداء أمره ومآله. وهذا تنويع في الخطاب، وخروج من الخطاب العام إلى الخطاب الخاص، وفي ذلك أيضا إشارة لطيفة إلى أن المقبل عليه بالخطاب له الحظ الأعظم والقسم الأوفر من الجملة المخبر بها، إذ هو في الحقيقة أعظم خلفائه، ألا ترى إلى عموم رسالته ودعائه وجعل أفضل أنبيائه أمّ بهم ليلة إسرائه، وجعل آدم فمن دونه يوم القيامة تحت لوائه، فهو المقدم في أرضه وسمائه وفي داري تكليفه وجزائه. واللام في للملائكة : للتبليغ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها اللام، فظاهر لفظ الملائكة العموم. وقال بذلك قوم، وقال قوم هو عام المراد به الخصوص، وهم سكان الأرض من الملائكة بعد الجان. وقيل : هم المحاربون مع إبليس. ومعمول القول إني جاعل، وكان ذلك مصدرا بأن، لأن المقصود تأكيد الجملة المخبر بها، وإن هذا واقع لا محالة وإن تكسر بعد القول، ولفتحها بعده عند

_
(١) سورة الحج : ٢٢/ ٦٦.
(٢) سورة البقرة : ٢/ ٢١.


الصفحة التالية
Icon