البحر المحيط، ج ١، ص : ٢٣٢
عليها في أصول الدين، ودلائلها مبسوطة هناك، احتاج أهل العلم إلى إخراج الآية السابقة عن ظاهرها وحملها كل قائل ممن تقدّم قوله على ما سبح له، وقوي عنده من التأويل الذي هو سائغ في علم اللسان. وقال بعض أهل الإشارات : الملائكة لما توهموا أن اللّه تعالى أقامهم في مقام المشورة بأن لهم وجه المصلحة في بقاء الخلافة فيمن يسبح ويقدس، وأن لا ينقلها إلى من يفسد فيها ويسفك، فعرضوا ذلك على اللّه، وكان ذلك من جملة النصح في الاستشارة، والنصح في ذلك واجب على المستشار، واللّه تعالى الحكم فيما يمضي من ذلك ويختار.
ومن أندر ما وقع في تأويل الآية ما ذهب إليه صاحب (كتاب فك الأزرار)، وهو الشيخ صفي الدين أبو عبد اللّه الحسين ابن الوزير أبي الحسن علي بن أبي المنصور الخزرجي، قال : في ذلك الكتاب ظاهر كلام الملائكة يشعر بنوع من الاعتراض، وهم منزهون عن ذلك، والبيان أن الملائكة كانوا حين ورود الخطاب عليهم مجملين، وكان إبليس مندرجا في جملتهم، فورد منهم الجواب مجملا. فلما انفصل إبليس عن جملتهم بإبائه وظهور إبليسيته واستكباره، انفصل الجواب إلى نوعين : فنوع الاعتراض منه كان عن إبليس، وأنواع الطاعة والتسبيح والتقديس كان عن الملائكة. فانقسم الجواب إلى قسمين، كانقسام الجنس إلى جنسين، وناسب كل جواب من ظهر عنه واللّه أعلم. انتهى كلامه. وهو تأويل حسن، وصار شبيها بقوله تعالى : وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا «١»، لأن الجملة كلها مقولة، والقائل نوعان، فرد كل قول لمن ناسبه. وقيل في قوله : وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، إشارة إلى جواز التمدح إلى من له الحكم في التولية ممن يقصد الولاية، إذا أمن على نفسه الجور والحيف، ورأى في ذلك مصلحة.
ولذلك جاز ليوسف، على نبينا وعليه السلام، طلبه الولاية، ومدح نفسه بما فيها فقال :
اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ «٢»، قال : إِنِّي أَعْلَمُ، مضارع علم وما مفعولة بها موصولة، قيل : أو نكرة موصوفة، وقد تقدم : أنا لا نختار، كونها نكرة موصوفة. وأجاز مكي بن أبي طالب والمهدوي وغيرهما أن تكون أعلم هنا اسما بمعنى فاعل، وإذا كان كذلك جاز في ما أن تكون مجرورة بالإضافة، وأن تكون في موضع نصب، لأن هذا الاسم لا ينصرف، وأجاز بعضهم أن تكون أفعل التفضيل. والتقدير :
أعلم منكم، وما منصوبة بفعل محذوف يدل عليه أعلم، أي علمت، وأعلم ما لا تعلمون.
(١) سورة البقرة : ٢/ ١٣٥.
(٢) سورة يوسف : ١٢/ ٥٥.